فرن بارد





في مطبخ لم تسمعوا عنه من قبل يقف فرن كبير قديم يغطي الصدأ قلبه المهجور ... كان في وقت ما يشارك القلوب الأخرى سعادته على شكل مخبوزات طيبة أو لعله كان يفعل ذلك في أحلامه .. ففي الواقع لم يسبق له أن جرب شعور الأفران الأخرى عندما تنجح في جعل الخبز اللازانيا والكعك تسافر عبر الصحون إلى القلوب ..

عندما فتح عينيه في بيته الجديد قررت مالكته الأولى والوحيدة أن تجرب صنع بعض البسكويت .... أن توسخ يديها بالعجين وتبدو كامرأة حقيقية ... تقلب صفحات كتب الطبخ العتيقة التي لا تذكر من أين حصلت عليها ولا متى ... وتستخدم مريلة المطبخ لغير غسل الصحون ... تحرك عضلات نسيت كيف تحركها منذ أن توقفت عن اللعب بالطين ... وتستخدم ذلك الشيء الموجود منذ الأزل في مطبخها ... ذلك الشيء الذي تستخدمه النساء لضرب الرجال في الأفلام ... نسيتْ أسمه أو ربما لم تعرف أسمه قط لكنهم يدعونه النشاب ...

أنهت تشكيل البسكويت وصفه في صينية الخبز لكنها نسيت تسخين الفرن الجديد ... ففتحت الباب وأمسكت بعلبة أعواد الكبريت ... أشعلت العود الأول وأمسكت مفتاح الغاز لإشعال النار في الفرن من الأسفل ... قربت العود وقبل أن تدير المفتاح انطفأت النار ... كررت الأمر مرتين أخريين وفي كل مرة كانت النار تنطفئ قبل أن تفتح الغاز ... لطالما علمت أن نوع أعواد الكبريت التي تستخدمها سيء لكنها لم تشتري غيرها ... وأخيراً توصلت لأن تفتح الغاز قبل أن تشعل العود ولكن النار استمرت في الانطفاء قبل أن تتمكن من تقريب العود من فتحة الغاز في أسفل الفرن ... لم تنتبه للسبب الحقيقي وراء ذلك فقد كانت مروحة السقف تعمل والنافذة مفتوحة لكن هذا لم يقف في وجه ما حدث أخيراً ... أشعلت آخر عود ثقاب لذلك اليوم وبوم ... سمعت صوت انفجار وارتفع الفرن عن الأرض وبسرعة عاد إليها ... لم تدرك ما حدث إلا وهي ملقاة على قفها والنار قد لفحت غرتها وأعادت تسريحها لها ...

وكانت تلك أول وآخر مرة تستخدم فيها الفرن ... فبعض المخاوف تعرف جيداً كيف تستوطن القلوب ...

بعد بضعة أشهر فُتح باب الفرن مجدداً وقفز قلبه ... ظن أنها أخيرا تغلبت على خوفها وسامحته على غلطته الغير مقصودة لكنها لم تفعل بعد ... أعواد الكبريت التي لم تطفئها مروحة السقف ولا النافذة بل التردد المخيف تكومت على باب المستلقي في حجرها ينتظر بعض الدفء الذي لم تمنحه إياه أعواد الكبريت ...

حاولت غسالة الصحون والثلاجة أن تواسياه ... انتظرتا أن حل المساء وراحتا تحدثانه عن البشر ويكف يمكن لعقولهم أن تغوص في ظلام التجارب السيئة وكيف أنهم يحتاجون وقتاً ليجففوا كل تلك الظلمة ويخرجوا للضوء ... أخبروه أن يديها المرتجفة وعقلها المضطرب سيستقيمان في آخر المطاف وسيحظى هو بوجبة ليحمرها لها ...

وجاء اليوم الذي أقامت فيه عزيمة عائلية ... وفتحت الفرن بعد وقت طويل طويل من التظاهر بأنه بخير وبأن الأمر ليس بهذا السوء حتى لا ترأف عليه كل زاوية في المطبخ الصغير ... لكن قلبه كان ينبض بقوة عندما فتح بابه أخيراً ... لكنه لم يتسنى له رؤية وجهها هذه المرة ... لم تجلس على الأرض كما ينبغي أن تفعل ...  إنها حتى لم تفتح الباب على مصراعه ... أنحنت قليلاً وأدخلت بسرعة كيس ورقية بداخله تفوح منها رائحة كان ينبغي أن تفوح منه هو ... ثم أغلقته عليها ...

كانت تخبأ مخبوزات طازجة بداخله من أبناء أختها الصغار ...

وتوقف عن حساب الأيام عندما أدرك أنها تحولت إلى سنين ... ما كان له أن يتصور أنه يمكن لشيء كالخوف أن يكون أكبر حجما وأثقل وزنا منه هو نفسه ... تعودَ أن يرى وجهها الجميل وهي تنظفه من الخارج وأحياناً من الداخل ... وفي مرات قليلة كانت تفتحه وهي تمسك بعلبة الكبريت ... ولاحظ أنها أخيراً غيرت نوع الكبريت الرديء الذي كانت تستخدمه ... لكنها لم تجرأ على إيصال أي من أعواد الكبريت للفتحة حيث ينبغي أن يخرج الغاز ... هي أصلاً لم تُدر مفتاح غاز الفرن ذلك منذ تلك الحادثة ولا مرة واحدة ...

ومؤخراً بدأت تهتم أكثر بالطبخ ... بدأت تتصفح مواقع الطبخ على الإنترنت أكثر وأكثر ... تحفظ الوصفات الجديدة وتجربها ... وأحياناً تطبع تلك التي تعجبها حقاً وتحفظها في كراس مليء بالوصفات والصور والنصائح ... كانت تتجنب دائما الوصفات التي تتطلب الفرن ولكن ذلك كان غير عملي بالمرة ... بدت وكأنها كمن لا يستخدم من الثلاجة إلا بابها ... وماذا يمكن للباب أن يحفظ ...

وفي يوم أحضر زوجها ضيفاً جديداً للمطبخ تبين لاحقاً أنه ليس ضيف على الإطلاق ... فقد اشترت فرناً كهربائياً صغيراً يتناسب وميزانيتها ومطبخها الصغير ... ولم يكن قد مر أسبوع عندما بدأت تستخدمه ولم تتوقف بعدها عن استخدامه ...

استجمع الدرج الكبير قواه وأخبر الفرن دفعة واحدة بأن البشر جيدون عندما يتعلق الأمر في ابتكار طرق جديدة عندما تصبح تلك القديمة عبأً عليهم ... ونصحه بأن يكتفي بالدفء الذي يحصل عليه من عيونه في الأعلى ... لكن الفرن القديم لم يفهم كيف يمكن له أن يكون فرناً ولا يعمل كواحد ...

لم يتمكن من فهم ذلك إطلاقاً وفي طريقه للمحاولة تعرف على شيء كبير أكبر وأضخم منه أتخذ من قلبه بيتاً له وسمح لنفسه بأن يشيخ هناك ... تعرف على شيء يعرفه البشر جيداً وفي غفلة منهم انزلق لعالم الجمادات حيث يمكن له أن يصنع المشاعر ويحطمها كيف يشاء ... وهكذا وجد الاكتئاب فرناً بارداً ليجعله أكثر برداً ...

********


في كل مرة استجمع قواي لأحرك مفتاح الغاز أصاب باختناق



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الحنين وأشياء أخرى في رسالة

عن بغلة القبور

الرابط العجيب بين نشر إيران للتشيع، وغسيل إسرائيل الوردي!