الرابط العجيب بين نشر إيران للتشيع، وغسيل إسرائيل الوردي!

 


مع اقتراب نهار يوم الخميس -20 مايو- من نهايته بدأ جيراني العصافير في وصلة عذبة من التغاريد تختلف عن أحاديثهم وثرثراتهم المزعجة طوال النهار، توقفت عن عملي عندما سمعتها، ومن على مكتبي أخذت لحظة أتأمل شعاع الشمس الذابل على حجارة الجبل المنتصبة على جانب الطريق أمام نافذتي، بجانبي علبة ماء وعن يميني مفاتيح الإنارة، وبنات أختي الصغيرات يلعبن مع الهررة في فناء المنزل، حيث لا تهز أشجار الفركس، والحمضيات، والتين، والرمان، إلا الرياح، والجدران التي يشيدها أبي هنا وهناك، وتلك التي يدكها هنا وهناك لا تعرف إلا مطرقته واسمنته، لا جرارات تهدها بأمر محكمة عنصرية، ولا صواريخ آثمة تحولها إلى أكوام، ولا احتلال غاصب يسرق بيتنا، وحينا، وأرضنا، ومزارع أبي الوثيرة على قلبه. في تلك اللحظة من الهدوء والسلام، من الأمن والأمان، تذكرت كل ما يحرم الاحتلال أهل غزة منه[1]، كل ذرة من الكرامة والإنسانية التي اغتصبها من فلسطين عنوة من قبل نكبة 1948[2] إلى هذه اللحظة التي أكتب فيها هذه الأسطر.

 

لا أخفيكم سرًا أنني كنت قد بدأت أعتقد أن العالم قد أدار ظهره بالكلية لفلسطين، وأنا أقف قبل أشهر في نقاش حادٍ مع اثنتين من قريباتي حول القضية، أحاول أن أقنعهن أن التطبيع الذي تبررانه ليس إلا خيانة، وأن السلام الوحيد الذي سيجلبه هو سلام المؤخرات الكبيرة على كراسي السيادة لعقود وعقود وعقود، فيما تسد أفواه الشعوب الجائعة والغاضبة، وأن الإعلام المسيس، والمحتل النجس، يسعون جاهدين ليكشفوا لكل الأطراف عورة بعضهم بعض؛ العورة التي نحتوها بأنفسهم بإزميل أشد مهارة من إزميل مايكل أنجلو وأوغست رودان، عورة مصنوعة من الأكاذيب والشائعات التي يستمر الإعلام العميل في نشرها بيننا، حتى صار الناس لا يرون من بعضهم إلا هذه الأكاذيب كلما قام أحدهم لينادي بالحق، الحق أن فلسطين محتلة وأنها قضية الأمة! ثم صدّق المحتل على هذه الشائعات والأكاذيب الملفقة بإغراء الحكومات -ومن بعدها الشعوب- بالتطبيع، تمامًا مثل ما أغرى إبليس آدم وحواء -عليهما السلام- بالملك والخلود ليأكلا من الشجرة المحرمة وتنكشف عورتاهما على حقيقتها.

 

ولكن الأمل عاد ليبعث فيّ مثلما بعث الذي مر على قرية وسأل أيان يبعثها الله، عندما رأيت العالم كله ينظر لفلسطين ويشهد على عدالة القضية، وجرائم المحتل وهو يمطر غزة بالصواريخ[3]، ووجهه الحقيقي الذي سعى منذ وطأ الأرض التي باركها الله لأن يخفيه تحت أطنان من الأكاذيب وجنود مجندة من الإعلاميين والمؤثرين، وحملات ممنهجة من تلميع الصورة[4] واستقطاب المشاهير[5] لزيارة الأرض المحتلة بوصفها دولة شرعية. رأيت كيف توحدنا أخيرًا: سنة وشيعة، مسلمين ومسيحيين وملحدين، لأن الشمس لا يمكن أن تطمسها الغيوم العابرة ولو أمطرت لعقود، ولكن الواقع كالعادة أيقظني، وذكّرني أبي بأن الحرب على الحقيقة مستمرة ما استمرت هذه الإنسانية البائسة.

 

ونحن في الطريق لشراء كوب قهوة أخذ أبي يشاهد مقطعًا يتحدث عن مساعي إيران لتشييع أهل غزة، وكيف تنجح مساعيها هذه مع صوت طفلة تشكر إيران على جهودها في إسعاد الأطفال والاحتفال بهم. في هذا الوقت الذي توحدنا فيه من أجل القضية يذكّرنا الأعداء أنه لا وقت للاحتفال بانتصاراتنا الصغيرة ولا للراحة، هناك دائمًا مؤامرة تحاك ضدنا، لتفريقنا وصدنا عن نصرة بعضنا بعض، ولا شيء أنجع من إثارة الطائفية لفعل ذلك. المقطع ببساطة يقول للسنة توقفوا عن دعم غزة لأنها صارت بيد إيران!

 

كم شخصًا من العامة في عمر أبي أو أكبر، شاهد هذا المقطع وأغاضه محتواه غيرة على دينه، أو كرهًا لإيران (يد إس**رائيل المفضلة لضرب العرب بينهم بين)، وكم مراهقًا وطفلًا نشأ لا يعرف شيءً عن فلسطين، ولا يعرف من دينه إلا أنه سني وأن الشيعة أعداؤه، وأن إيران تعبأ دول الشرق الأوسط ذخيرة وصواريخ ليقتلوا بعضهم بالعشرات كل يوم، وكم من هؤلاء سيدرك أن الفراغ الذي تركته بعض الدول السنية في لهاثها تجاه التطبيع كان ولابد أن يملأه غيرها، ومن أفضل من إيران التي تنشر التشيع لتزيد من رقعة نفوذها بخلق أتباع لها حيث أمكن لها ذلك[6]. بل أكثر من ذلك كم شخصًا منا -نحن جميعًا- يمكن أن يكون حياديًا بما يكفي ليدرك أن الظلم لا يمكن أن يصبح عدلًا بوقوعه على عرق أو طائفة لا نتفق معها.

 

وقوفنا مع قضية فلسطين والمقاومة بكل أشكالها السلمية والمسلحة، لا يعني بالضرورة وقوفنا مع أي حزب من أحزابها، سواء ذاك العميل لإسرا++ئيل، أو ذاك المطبع مع إيران، وربما لا يدرك الكثيرون أن النسيج المجتمعي في فلسطين يتكون من مسلمين، ومسيحيين، ويهود، ودروز، وبهائيين وغيرهم[7]، ولطالما كان المجتمع الفلسطيني كذلك، ولم يكن هذا التنوع يومًا سببًا في التوقف عن نصرة القضية، فلماذا يصبح التشيُّع -المبالغ في تصوير وتيرته لصالح إيران- سببًا لخذلانها الآن، في هذا الوقت الذي يجب أن نركز فيه على الوحدة وأولوية القضية لا على الانقسامات والصراعات.

 

إن كان يمكن التلاعب بنا نحن العرب من باب شيعة وسنة لنصرف قلوبنا ودعواتنا عن الأقصى وأهله وننشغل في المزيد من الحروب التي تظهر إسرائي**ل بمظهر دولة السلام والديموقراطية الوحيدة في منطقة ملتهبة بالحروب الأهلية والثورات الدامية والثورات المضادة، فإن الغرب يُصرف من باب آخر، من باب لم أكن أعتقد أنني سأعيش لأراه يفتح على مصراعيه بهذه الصفاقة. فبينما نحن نشكك في انتماءات أهل غزة تعمد إسرا++ئيل لاستراتيجية الغسيل الوردي[8]، إذ تشيع في العالم الغربي -المهووس بحقوق الشوا***ذ المزعومة- بإن فلسطين، وغزة على وجه الخصوص، لا تعترف بحقوقهم، على عكس إسرا--ئيل الملاذ الآمن لشوا++ذ العالم المضطهدين. إن كنتُ شككتُ سابقًا في قدرتنا على الحيادية في نصرة المظلومين، فإنني أقف عاجزة عن استيعاب حقيقة أن ميول أحدهم الجنسية، وما يمكن أن يفعله بأعضائه التناسلية، أهم بكثير من حق طفل في الحياة، الحياة وحدها بدون أي شيء آخر مما يطرأ لنا في عقولنا المتمدنة بأنه مسلّمة من مسلّماتها مثل الماء، والكهرباء، والصحة، والتعليم، والهواء النظيف، وغيرها[9].

 

الاحتلال، والإبادة الجماعية، والتطهير العرقي لشعب فلسطين لا تبدو اليوم أسباب كافية للوقوف مع فلسطين لأنها لا تعترف بحقوق الشو**اذ المزعومة، ولأن المحتل يسبقنا دائمًا بخطوة، بل بألف وواحدة، فقد روج جيدًا لهذه المعادلة الجائرة حالما أدرك أنها يمكن أن تباع في الأوساط اللبرالية التي تفتقر لأدنى مقومات المنطق. في المقابل أعتقد أنه ربما حان الوقت لكل شخص يعيش في فلسطين ويصنف نفسه واحدًا من "الميم" أن يستخدم صوته للدفاع عن وطنه، عن فلسطين، ليكشف للعالم أن جندي الاحتلال عندما يصوب سلاحه في وجه الفلسطيني فإنه لا يهتم ولا قيد أنمله بميول ضحيته الجنسية؛ طالما أنه فلسطيني فإن له من الضرب والسحل والرصاص نصيب وافر، وهذا بالضبط ما تحاول إسرا**ئيل أن تخبئه عن العالم بغسيلها الوردي وباستخدام أصواتكم التي تكتمها قسرًا في سجونها، فلا تسمحوا لها بذلك!

 

في هذا الوقت الذي تنهش فيه الأمة من كل اتجاه، وينزف أبناءها على كل الأراضي دون حياد، يجب أن نقف صفًا واحدًا وأن لا نسمح للقريب قبل العدو بأن يفرقنا أو أن يصرفنا عن قضايانا، وفلسطين ليست استثناءً. وبالحديث عن النصرة فإن لكل منا طاقته وطرقه في ذلك، سواءً كان ذلك بمقاطعة منتجٍ واحدٍ على الأقل من منتجات الشركات والعلامات التجارية التي تدعم الكيان المحتل[10]، كما نقاطع اليوم المنتجات الفرنسية، أو بالتبرع ولو بريال/ دولار واحد أو أقل، لأهل غزة[11] على وجه مخصوص، ولفلسطين بشكل عام، أو بمواصلة نشر الحقائق عن القضية على وسائل التواصل، وإيصال أصواتنا للعالم كله. وأخيرًا، بل أولًا، لنسأل الله النصر المؤزر بصدق ويقين، فلا شيء يمكن أن يوازي قوة الدعاء طالما أننا لم نصل من ظلم أنفسنا والصد عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لذلك الوقت الذي نرفع فيه أيدينا لندعو، فلا يستجاب لنا.

 

ربما نشأ بعضنا في وقت شهد فيه الصغار من على شاشات التلفاز حقيقة الاحت**لال في عيون محمد الدرة، وأنفاسه تسكن خلف والده العاجز عن صد رصاصات جنود الاحتلال عن جسده، وفي ذلك الوقت لم تصلنا الشائعات التي نشرها الاحت**لال عن والد أحمد الدرة ليبرر جريمته في عيون العالم، لذلك لم نشك ولا للحظة في أن محمد ووالده ضحايا لجريمة ممتدة منذ عقود، اسمها إسرا-- ئيل. وسواءً عمدت إيران إلى نشر مليشياتها بضراوة، أو لمّعت إسرائ++يل صورتها بصفاقة، يجب أن نضل متحدين ومتيقظين، لأن حق الأجيال القادمة علينا أن تشاهد الحقيقة كما شاهدناها، دون تشويش، أو تزوير، أو تعتيم، بل حقها أن تصلي في المسجد الأقصى وتسيح في حارات فلسطين وقراها كما فعل أسلافنا، لا تخاف اضطهادًا ولا ظلمًا.

 

*للتبرع من داخل المملكة، يمكنكم زيارة صفحة مركز الملك سلمان -حفظه الله- للإغاثة والأعمال الإنسانية، من هنا، واختيار أي مشروع من مشاريع الخير وتحديد جهة التبرع لدولة فلسطين.



[1] خنقُ وعزلة، 15 سنة من الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة، (المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان) https://euromedmonitor.org/ar/gaza

[2] حرب النكبة فلسطين 1948، (فلسطين سؤال وجواب) https://youtu.be/g3RZXQJmeoI

[3] التسلسل الزمني للصراع الإسرائيلي الفلسطيني 2021 (ويكيبيديا) https://bit.ly/3p9Km6g

[4] الاحتلال يستقطب مشاهير كرة القدم لغسل سمعته.. إسرائيل تمنح الجنسية لمالك "تشيلسى" ليصبح أغنى مواطنيها بـ13 مليار دولار.. نجم برشلونة "روبيرتو" يتزوج عارضة إسرائيلية.. وميسى يقود منتخب بلاده فى الأراضى المحتلة، محمود محي، 2018، (اليوم السابع) https://bit.ly/3ckQXFW

[5] مطربة عالمية بعد زيارتها لإسرائيل: آسفة... لم أكن أعلم، 2019، (عربي SPUTNIK) https://bit.ly/34D6WuJ

[6] التشييع في العالم الإسلامي.. القابلية والمستقبل، أمير سعيد، 1434هـ/ 2013م، (موقع المسلم)، https://almoslim.net/node/181728#.YLfSzN4G4os.link

[7] الديانات والطوائف في أرض فلسطين، د. نزار نبيل أبو منشار 1435هـ/ 2014م، (شبكة الألوكة)، https://www.alukah.net/sharia/0/74776/

[8] غسيل وردي، (ويكيبيديا) https://bit.ly/3fK8UzT

[9] في غزة يضطر الأطباء إلى ضخ الأوكسجين يدويا في رئة الأطفال المرضى عند انقطاع الكهرباء، (أخبار الأمم المتحدة) https://news.un.org/ar/story/2018/10/1020032

[10] لنقاطع HP، (حركة مقاطعة إسرائيل (BDS https://bit.ly/2SRJ8AC

[11] Gaza in crisis, (HUMAN APPEAL) https://bit.ly/34KrQYZ

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الحنين وأشياء أخرى في رسالة

عن بغلة القبور