أمي




لا أعرف أين بالضبط توقفت عن كوني صغيرة ولصيقة بأمي ...

عندما أمر على الصفحات الأكثر قدماً في ذاكرتي ــ وأنا لا أحب فعل ذلك عادةً ــ لا يسعني إلا التوقف عند ذكرياتي الجميلة مع أمي ... وهي تعلمني الصلاة ... تصلي معي ... تمرر أصبعها الإبهام على مفاصل أصابع يدها اليمنى بعد الصلاة ... عباءة صلاتها القديمة وسجادتها الخضراء العتيقة ... لا أذكر متى توقفنا عن الصلاة معاً أكان ذلك قبل ولادة أختي مجد أم بعدها ... ربما بعدها أذكر أنني كنت ألح عليها أن تصلي معي كما كنا نفعل ووقتها أخبرتني بأن النساء الاتي تلد لا تصلي لأربعين يوماً وهكذا توقفنا عن الصلاة معاً ...

أتذكر الصباحات المشرقة التي تأخذني فيها لزيارة الجيران وأحواشهم الكبيرة بحيطانها الباهتة ... شطائر البطاطا والباذنجان والكوسة المقلية مع القليل من المايونيز التي تعدها لي في عصريات الصيف الطويلة ... وليالي العيد الأولى التي تخضب فيها أصابعي بالحناء ...

العالم وقتها كان أنا وأمي والقليل من أكاذيب أختي دلال ... أذكر عندما أخبرتني دلال بأن شعري سيستمر بالنمو حتى يغطي جبيني بأكمله وعندما أخبرت أمي وقد تملكني الخوف أخبرتني بأنها كذبة كما تخبر اليوم أخواتي الصغار في كل مرة يشكون لها مخاوفهم التي بنتها أكاذيبي عليهم ... واليوم أتسأل إن كانت دلال بكذبتها تلك تقصد أن تحميني من الحقيقة .. حقيقة أن شعري سينمو لكن بشكل عكسي للخلف تاركاً جبهتي تكبر قليلاُ وقليلاُ بعد ...

كنت دائماً أجلس معها وهي تستلقي في سريرها بعد الغداء وأسرد لها أحداث يومي المدرسي وما أستجد من أكاذيب صديقاتي وهي تسدي لي النصح .. أمي يمكن لها أن تسدي نصائح جيدة جداً لو استثنينا نصائحها لأختي الصغيرة مزن عندما تشكو الأخيرة لأمي زوراً منا .. أو تشك أمي في أننا قد نكون ضيقنا عليها .. وقتها تطلق أمي نصائحها الأكثر جنوناً ربما كما تفعل أي أم تحاول منح أصغر أولادها المزيد من الدلال والحماية الغير ضرورية ... الأمر مضحك للغاية وأحيانا مستفز ...

عندما كنت صغيرة كانت أمي تعد لي شطائر الجبن مع الحليب الساخن في الصباح ... كنت وقتها أمتلك موهبة فريدة وهي أنني بعد أن أقضم من الشطيرة ــ بعد أن تلح علي أمي أن أفعل ــ أحتفظ بها لأطول وقت ممكن بداخل فمي بدون أن أمضغها أو أغير في شكلها ... كنت بارعة حقاً في ذلك ... لكن أمي كانت تدرك وقتها أن هذه المهارة ليست إلا مضيعة للوقت وهكذا كان عليها أن تفكر في مستقبلي ومستقبلها وكل الوقت الضائع في تخزين اللقم داخل فمي فكانت تصرخ بي وتخيفني فأمضغ قليلاً ثم أعود للتخزين ... فمع الممارسة تتطور المهارات كما تعلمون ... لم أعد أخزن اللقم لكن أمي ما تزال تستحثني للأكل وكأن كرشي سيضمر إن لم أفعل ...

 الذكريات لا شك كثيرة لكني تعلمت أن أحجزها عميقاً جداً فقد تعلمت أن الماضي يمكن أن يجعل النوم ليلاً مهمة مستحيلة ... لذلك أجد صعوبة في انتشال المزيد من الذكريات السعيدة على كثرها J

لا أعرف حقاً أين توقف العالم ... حك رأسه وقرر أن يحولني إلى شخص مختلف ... من أين اكتسبت شخصيتي التي تجرني بعيداً عن أمي ... كيف أصبحت اهتماماتنا ووجهات نظرنا متضاربة ... لكني أعرف جيداَ أن أمي موجودة في كل مكان بداخلي ... في أفكاري في تصرفاتي في نظرتي للعالم والثياب التي تغطي جسدي ... أنا أعرف أنني مهما أبحرت بعيداً فهي معي وأي سفينة أركبها وأنا مغضبة منها سترسو على ضفاف أمي بلا شك ...

ومن بين كل الأماني التي تروح وتجيء داخل رأسي ومن بين كل تلك التي تحفر عميقا في عظامي أكثر ما أريده أن أصبح بارة بأمي وأن يسخرني ربي ... أن يسخرني كلي لأمي وأن يلمس قلبي بعطفه فيحوله لمكان يمكن لأمي أن تستريح فيه طوال الوقت ... لا تسمع فيه لغواً ولا تأثيما ...

لا يمكن لي إلا أن أقر بأنني اختبار أدرج على لائحة الاختبارات الكثيرة التي كتبت لأمي في هذه الحياة ... لعل الله قد كتب لها منزلة عالية في الجنة ... عالية جداً وهذا جل ما أسأله جل وعلا ... وكيف لا أسأله هذا وأنا أرى أمي تنام لتصحو على اختبار جديد إن لم يكن في صحتها كان في أولادها وأفراد عائلتها ... ربما لهذا أصبح إيمانها بالقضاء والقدر لا يزعزعه شيء ... ورضاها بهما أكثر استقراراً من أي منا وليتنا جميعاً مثلها راضين قنوعين وشكورين ...

أنا أبحث في قصص البارين عن عثرات وهفوات الماضي ... أريد أن أجد ما يطمئنني ويخبرني بأنني مهما جمحت صرخت وعقيت فيمكن للأيام أن تطوى ويظهر من بين طياتها نسخة بارة مني ترضي أمي وربي .. نسخة لن تتغير بعدها إلا لتصبح أفضل وأفضل ...

وأبحث أكثر في وجوه المقاتلين القدماء عن الراحة التي  أرجوها لأمي ... أريد أن أرى في وجوههم سلاماً وراحة بال تطمئنني بأن أمي التي عانت كثيراً تحملت وصبرت قبل أن تتعلم أن تكون ممتنة للأشياء البسيطة وأن لا تكره أحداً مهما أنزل بها من ظلم ... أريد أن أجد الراحة في وجوههم لتطمئنني بأن أمي ستجدها وأن وقت من السلام سيحين على مملكتها كثيرة الاضطراب ..
أسأل الله أن يطيل في عمري أمي بطاعته ورضاه وأن يقر عينها بنا ويسخرنا لها ...



te amo mamá


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الحنين وأشياء أخرى في رسالة

عن بغلة القبور

الرابط العجيب بين نشر إيران للتشيع، وغسيل إسرائيل الوردي!