أين تجمع جدتي دموعها




جدتي ... إن سألتني من أحب شخص لقلبي فهو حتماً المرأة التي أنجبت أمي ... جدتي منيرة ... ونعم أنا أحمل اسمها فلا عجب أنني أحبها كثيراً وأحب كل ما يتعلق بها بما فيه اسمي...


أطيل شعري الآن وأصارع رغبتي في تقصيره كلما رأيت شعراً قصيراً مسرحاً لأنها تحبه طويلاً ... أتجنب ارتداء أي زييَ سيجعلها تغضب مني أو تتضايق مني ... وهي حبيبتي لا تفكر مرتين قبل نهري عن فعل شيء لا تحبه ... كأن تخبرني بأن أزيح شعري عن وجهي لأنها تؤمن بأن هذا ما يجب على المرأة أن تفعله لتظهر جمالها ... وأنا حتماً سأفعل ما يرضيها لأنني أحبها وأحب أن تخبرني بما تحبه أو تكرهه وإن كان يعني ذلك أن لا أستخدم الكحل الأبيض على الأقل أمامها لأنها لا تراه جذابا كما أفعل أنا ...


تعرض جدي ــ أطال الله في عمره ــ قبل أشهر لمشكلة في أحد شريان قلبه اضطرته لعمل قسطرة القلب ... كان الأمر مفزعاً ومخيفاً على كل الأصعدة ... أنا لا أكذب عندما أقول أنني أحياناً أصاب بضيقة عندما أكون معه ولا ألمسه ... شيء ما يعصر رأسي يخبرني أن علي أن ألمسه ... أن أقبل رأسه ويده ... أن علي أن أتمسك بيده وأتحدث معه ... أن علي أن أراقبه جيداً وأبقي عيني متيقظة لالتقاط كل تفاصيله ... فكيف بي أسمع أن جدي ليس بصحة جيدة وأنه يرقد في العناية المشددة ... وفي زيارتنا لجدتي الأسبوع الماضي وبدون مقدمات بدأتْ جدتي تروي لنا ذلك اليوم الذي وقع فيه جدي في حقله على أثر المشكلة...


أخبرتنا أنها حاولتْ منعه من الذهاب للعمل في الحقل أو ما نسميه محلياً " البلاد " وحاولتْ إقناعه بأنه عمل لا طائل منه وبأنه لن يجني منه شيء إذا ما كلفه حياته ... وأنه سيتركها وخالتي الغير متزوجة من بعده يبكونه ... لكنه أصر بشدة على الخروج ... رأته بعدها خالتي التي تسكن قريباً منهم وهو يعاني على أرض البلاد فأسرعت نحوه ظناً منها بأنه ربما يعاني من هبوط في مستوى السكر بدمه لكنها كانت مخطأة ... نقلوه بعدها للمستشفى وذكرتْ جدتي كيف مُنعتْ من رؤيته وكيف تسللتْ للغرفة واختبأتْ خلف الستائر لتراه وتتأكد من أنه بخير ... وعندما أومأ لها بأنه بخير خرجتْ ... تحسن جدي الآن كثيراً ولله الحمد والمنة ولكنها بدتْ وهي تحكي ربما نادمة أو غاضبة منه ولا أعرف لماذا قررتْ أن تحكي كل ذلك بعد كل هذا الوقت ...  


استفز كل هذا الحديث عمة أمي والتي تقضي بعض الوقت في منزل أخاها لتسألني عن صحة جدتي لأبي حيث أنها ليست بخير مؤخراً أسأل الله أن يمدها بالصحة والعافية ويطيل في عمرها على طاعته ورضاه ... ثم أنطلق الحديث ليطال رجل كبير في السن يعرفونه ... فهمت أنه مريض جداً وأنهم يعتقدون أنه مصاب بالسرطان ... علقتْ جدتي بأنه هو من جنى على نفسه ... فقبل عدة أشهر وبعد حادثة جدي توفي أخو جدتي الوحيد والفرد الوحيد الذي بقي لها من عائلتها ــ رحمة الله رحمة واسعة وأدخله فسيح جناته ــ ... توفي بعد شهر من المرض ... وفي العزاء أنهار الرجل السالف الذكر ... تحدثتْ جدتي عن كيف كان يبكي بحرقة ويدعو الله أن يلحقه ... وكيف حاولتْ أن توقفه عن الدعاء على نفسه وصرختْ به ليتمالك نفسه لكنه أخذ يكرر بأن أخوها كان صديقه وأخاه وأبوه ... لذلك ترى جدتي أن دعائه على نفسه وقتها قد يكون جر عليه المرض الآن ــ أسأل الله أن يهبه الصحة والعافية ــ ... وذكرتْ بعدها جدتي كيف أن عمة أمي هي أيضاً كان لها نصيب وافر من الدموع في العزاء ... وأقرتْ الأخيرة ذلك فقد تذكرتْ كيف أنها آخر مرة كانتْ هنا أتصل أخو جدتي منيرة بأخته ليدعوها لبيته فأخبرته بوجود عمة أمي عندها فقال لها أن تحضرها وتأتي لكنها رفضت أن تخرج ضيفتها من بيتها وأبت أن تزوره ... وقتها أوقفت جدتي الحديث فجأة وذكرت أنه حان وقت الصلاة ونهضت ...


لم أرى جدتي تبكي ولا مرة في كلا الحادثتين لكن جلسة واحدة أظهرت لي عمق الجرحين وكيف أنهما ما يزالان وأظنهما لن يتوقفا عن الحفر عميقاً بداخلها ... رأيت كيف تتحدث عن تفاصيل مرض جدي وكيف أن الأمر مازال حاضراً معها ... كيف ما تزال تذكر وقوفها في وجهه وكيف ربما تشعر بالعجز لأنها لم تتمكن من منع ذلك وربما بالخوف لأنها لن تتمكن من منع أي من ذلك في أي وقت قادم ... لقد تزوجت رجل عنيد بقلب كبير حبيبي حفظه الله ورعاه ...


لقد رأيت كيف أن ألم فراق آخر فرد من عائلتها يمكنه ببساطة أن يوقف الحديث وأن يجمد الدموع في عينيها ... أنا أؤمن أن فقد أولئك الذين لا يبكون موتاهم أشد وأعتى ... أتسأل إن كانت جدتي تستيقظ آخر الليل كل بضعة ليال ربما لتدرك من جديد أنها لن تتلقى زيارات ولا مكالمات من أخيها ... أنها فقدت عضيدها وكما تقول أمي " الأخ قبل الولد ... يرزقك الله بولد وآخر إن شاء وفقدتي الأول لكن الأخ لا عوض عنه ... لا بديل ولا شيء يمكن أن ينسيك فقده حتى الزوج تفقدينه وترزقين غيره لكن الأخ متى ما ذهب ذهب " ... أسأل الله أن يمد في عمر أخي ويبقيه ذخراً لنا ويسعده في الدنيا والآخرة ... وأسأله أن يفتح له أبواب رزقه ويملأ قلبه حبا ورضى ... وأتمنى أن يدرك أنني أحبه وأعرف سبعة قلوب أخرى تحبه أكثر وأكثر ...


التفكير في جدتي وألمها يؤلمني وبالكاد أبقيت دموعي متجمعة على منابت أهدابي ... بالكاد منعتها من الانزلاق ... لكنني أتسأل حقاً أين تجمع جدتي دموعها ... ولكم من الوقت جمعتها ... تُحدثنا كثيراً عن أيام صبها وكيف كانت مرحة ومشاكسة ... وفي مرات ذكرتْ لنا مغامراتها مع أخيها رحمه الله ... أفكر أحياناً أنها ربما عاشت أكثر مني وهي في سني لكنها في الحقيقة تذوقتْ الكثير من الضيم والظلم والعمل الشاق المضني ... لا أعرف كم طفلاً فقدت ولا كم فاهاً أطعمت ... كم صبرت على ما أصابها وكم عانت وهي ترى أولادها يكبرون وتذيقهم الحياة اللظى ... أحدهم يفقد قدرته على السير وأخرى تترمل وفي حضنها ثلاث كتل بشرية ورابعة تتكوم في بطنها ... هناك الكثير من الأبناء وكلهم له نصيب كبير من الحياة لكنه نصيب مضني ومتعب عليها أن تتعامل معه وحمله على شكل ندوب في قلبها إلى يومنا هذا ... مؤخراً سمعتها تتحدث عن ما مرت به من الظلم وسمعتها تعبر عن ندمها على قرارات لم تتخذها ... سمعتها تندب حظها لأنها لم ترى شيء من الحياة أو فلنقل أن ما رأته لم يكن ساراً جداً ...


جدتي إلى اليوم ما تزال تحمل هم أبنائها الكثر والجديد أن كل منهم أنتج من ثلاثة إلى تسعة من الأبناء كل منهم همٌ جديد ... أنا أؤمن كل الإيمان أن جدتي لا تشعر بي وحسب بل تعرف بالضبط ما أمر به ... ربما في نظر البعض أنا مجرد رقم عندما يأتي الأمر لأحفادها ... حتى أن رقمي ليس مميزاً على الإطلاق لكن بالنسبة لجدتي أنا منيرة التي لديها دائما نصيحة مفيدة وموجهة تعطيني أيها وهي تنظر مباشرة إلى عيني بعينيها الحلوة التي تبدو وكأن الزمن أبهت لونها ... أذكر مرة كنت أواجه مشكلة مع صديقاتي حيث كنَ لا أدري أي مصطلح يجدر بي استخدامه لكن فلنقل أنهن كن جامحات قليلاً ... ربما أردن أن يجربنَ الحياة وأن لا يسمحنَ للتفكير بالعواقب والأهل أن يعيق مغامراتهن الصغيرة وأنا كنت جزء من كل هذا لكني كنت أحب أن أفكر مرتين إضافيتين قبل فعل شيء قد أندم على فعله لاحقاً عندما ربما ينفجر الأمر برمته في وجهي ... لا أقول أن تفكيري هذا طال كل شيء وإلا لما كنت الآن نادمة على كومة من الأشياء ... في ذلك الوقت نظرتْ في عيني حيث لم يكن هناك سواي أنا وهي في الطابق الأعلى من بيتها وقالتْ لي " لا تسمحي للفتيات أن يجروك خلفهم ... ولا تفعلي كل ما يملونه عليك ... كوني قوية " أنا حتى لم أخبرها بشيء ...


هي لا تكتفي بالنصائح بل إنها تدعمني أشد الدعم ... دائما تسألني عن دراستي وتطلب مني أن أركز عليها وأن لا أهتم بما يقال خاصة عندما يبدي جدي حبيبي تأسيه علي وعلى تفريطي لحياتي في الدراسة ... من وجهة نظره يفترض بي أن أكون الآن وقد أنهيت تعليمي الجامعي موظفة لكن عوضاً عن ذلك أنا أستمر في الدراسة ... أنا كما يقول أرفع قدمي من الوحل لأعيدهما فيه ... ربما هو محق ... لكني فوضت أمري كله لله وحده ... ويكفيني تشجيع جدتي واهتمامها الحقيقي بدراستي وبشعوري تجاهها عوضاً عن الاكتفاء بمعرفة التفاصيل الجانبية التي يهتم عادة بها الآخرون ... 


العالم كله يمكنه أن يبتسم في هدوء على شفتي جدتي وفي بريق عينيها عندما ترانا ... يمكن لكل الحب الذي أسعى خلفه أن يتوقف ويغمر قلبي بين أحضانها عندما تلامس شفتيها وجنتي وتظم ذراعيها شتاتي ... يمكن لعقلي أن يهز نفسه قليلاً ويتخلص من كل عبء فقط عندما تراني وتغني لي " منيرقا هبيلنا شعيرقا " ولابد أن يأتي مني الرد " ما عندقا شعيرقا " وتضحك دائماً ... وأنا لا أفهم شيئاً ...


لو كان هناك عالم سحري يختفي بين خطوط هذا العالم فضحكتها هي حتما مفتاحه الأوحد ...


عندما يهجم العمر علي إن فعل يوماً ... فأريد أن أكون بجمال جدتي ... أريد أن ينظر لي النساء ويقولون " كم تشبه جدتها أطال الله في عمرها " ... أنا أحبها حتى عندما تصرخ بي وأنا أفعل الأمور على غير طريقتها ... عندما تعبس في وجهي عندما أسألها إن كانت تحتاج مساعدتي وتسألني " ألا تركنين على قدرتي " أحياناً أشاكسها وأجيب بـ لا ... أحبها حتى عندما تناديني بأسوأ أسمائي أمام الأغراب لأنني منيرة التي كبرت تتقلب في حضنها وتلتهم لقمها اللذيذة ... آخر مرة طلبتها أن تطعمني من عصيدتها فعلت حتى أنها علمتني كيف أحمل كرة العصيدة التي ندورها على الإصبع الإبهام لنشكل بداخلها حفرة نغرف بها المرق أو اللبن ونلتهمها ... بالعادة عندما أغرف المرق تلين العصيدة من المرق الساخن وينشق جدارها ... جدتي بسطتْ الأمر لي وأرتني كيف يفترض بي حملها بحيث أبقي إصبعي السبابة والوسطى تحتها وهكذا تبقى سالمة حتى تصل لمثواها الأخير ... لكني نسيت تطبيق النصيحة وفشِلت أول حمولة لي فعاتبتني بجدية وأعادت تعليمي ونجحتُ في المحاولة الثانية لكن جدياً من يحتاج للتعلم وهناك جدتي لتطعمني كما فعلتْ منذ أن كنت في شهري الخامس ...


أحبك يا جدتي وأحب أنني بطريقة ما خرجت مع أمي من بطنك ودخلت لا حقاً في قلبك ... أحب أنك جدتي وأن أمي تشبهك كثيراً ... قلبها كبير أبيض ولا يعرف الكره تماماً مثلك ... وأنا أنوي أن أكون مثلك أيضاً ربما أحتاج مزيداً من الوقت لكني حتماً أريد أن أكون مثلك ...


إلى جدتي المرأة المثالية ... إلى جدتي وحسب ... أحبك كل يوم

   


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الحنين وأشياء أخرى في رسالة

عن بغلة القبور

الرابط العجيب بين نشر إيران للتشيع، وغسيل إسرائيل الوردي!