بكيني الأخلاقيات النسبية




في الحلقة الأخيرة من الموسم الأول من برنامج Hello counselor[1] الكوري، وصلتهم رسالة من امرأة في الثلاثين متزوجة منذ 7 سنوات ولها بنتين، قبل زواجها كانت تعمل مدربة صحية وشاركت في عدد من مسابقات بناء الأجسام، ولكن بعد الزواج والإنجاب توقفت عن عملها، ومنذ سنتين عادت للاهتمام بلياقتها والتردد على النادي الرياضي، والآن تريد العودة للمشاركة في مسابقات بناء الأجسام في فئة البكيني. تتلخص مشكلتها في رفض زوجها مشاركتها في مسابقات بناء الأجسام، وتهديده بطردها من البيت إذا شاركت في أي منها، ولأنه لم يصارحها حقيقة بسبب رفضه -مع أنه لا يمانع ذهابها للنادي الرياضي- ولا يسمح لها بفتح الموضوع أو الحديث عنه، أرسلت مشكلتها للبرنامج أملًا بأن يقتنع بمناقشة الموضوع معها والإفصاح عن سبب رفضه وعناده.

بعد عدة محاولات من المذيعين لاكتشاف السبب الحقيقي وراء رفضه لمشاركة زوجته في هذه المسابقات، اعترف بأنه لا يحب أن تظهر بالبكيني على المسرح وتستعرض جسدها على مرأى من الجميع. في مجتمع علماني مثل كوريا، خضع لتغيرات سريعة في المبادئ والأخلاق، بدى سببه لغالبية الحضور غير مقنع ولا يمكن تفهمه، لا سيما وأن جسدها أبهر الجميع، حتى أن والدها الذي كان في البداية غير مرتاح لملابسها غير رأيه وقرر أن ينظر للبكيني على أنه طريقة لإظهار نتيجة عملها الجاد والتزامها، وهذه النتيجة هي جسدها.

يبدو الأمر مربكًا فعلًا في مجتمعه، وسببه يبدو واهيًا للحضور، بالنظر لأن الأخلاق التي يرتكز عليها سببه مهزوزة جدًا وقديمة، فهي أخلاق جيل ماضي لم تعد تتناسب مع أخلاق المجتمع الحالية ونظرتهم المنفتحة للتعري والتكشف، بل كيف أصبح جزء من ثقافتهم الشعبية، مغاير تمامًا لما كانت عليه ملابسهم التراثية من حشمة وتستر، فالأخلاق متى ما تحولت إلى مادة نسبية تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة، صارت موضوعًا شائكًا، ومفترقًا لا مناص منه، فما تراه عيبًا قد لا يكون كذلك في نظر غيرك في مجتمع علماني ليس له مصدر ثابت يستقي منه أخلاقياته ومبادئه، وما قد يتفق شعب ما على أنه عيب اجتماعي قد لا يراه شعب آخر كذلك، ومثال ذلك أن في كوريا يعتبر من العيب أن تظهر المرأة صدرها لكن إظهار فخذيها أمر طبيعي جدًا، وفيها مازال الشذوذ الجنسي موضوع حساس ينتشر بحذر معتمدًا على البروباغاندا في المسلسلات والأفلام والعروض الغنائية، وبعد عقد من الزمن سيتغير الوضع طبعًا لأن الأخلاقيات التي ترفضه ستتغير وتندثر مع الجيل القديم ومع انفتاح المجتمع المتزايد ونظرته الدائمة إلى الغرب بالاحترام والتبعية.

زوج المرأة لديه مشكلة أخلاقية أخرى، فقد كان يدعم توجهاتها قبل الزواج ويشجعها على المشاركة في مسابقات بناء الأجسام، لأنها ببساطة لم تكن (له) وقتها، كما اعترف بنفسه، والآن وقد أصبحت زوجته فإنه لا يريد أن ينظر لها غيره. كل ذلك مرده مرة أخرى لنسبية الأخلاق وغياب أرض صلبة يمكن الاتكاء عليها لتحديد هذه الأخلاق وتطبيقها بشكل شامل، يمكن للجميع أن يتفق عليه وللمجتمع أن ينصاع له. إلى أن نجد هذه الأرض الصلبة سنظل نتخبط في محاولة تحديد أي عضوٍ يمكن لامرأة مستقلة في مجتمع ما أن تظهره، وأي عضوٍ لا يجوز لها أن تظهره في مجتمع آخر، بناء على أخلاقيات لا منطقية وعشوائية ونسبية، ستجعل من قرارنا هذا قرارًا رجعيًا بعد بضعة سنين عندما تتغير نظرتنا لأجساد النساء مرة أخرى بسبب السياسة والاقتصاد.

وغالبًا هذه الأخلاق النسبية التي تقف خلف سن القوانين الاعتباطية هي السبب في تطرف النسوية، ومثال ذلك مطالب النساء في بعض المجتمعات (المتحضرة) بالمساواة مع الرجال في كشف صدورهن في الأماكن العامة، لأنهن إن فعلن ذلك سيتعرضن للعقوبات. مطالب متطرفة كهذه نابعة من لا منطقية الأخلاق النسبية التي تحكمت طويلًا في لباس النساء وفق أهواء نخبة من المجتمع، وغالبًا هم التجار والأثرياء وشاكلتهم. الأمر ذاته ينطبق على مطالبات الحركة النسوية في المجتمعات العربية، والمجتمعات الفقيرة بشكل عام، بحقوق النساء المزعومة في ممارسة الجنس (الزنا) علنًا وبحرية تامة، لأن الرجال درجوا في هذه المجتمعات على ممارسة الرذائل والانفلات من العقوبات والوصمات السلبية، وهذا أيضًا نابع من خلل في الأخلاقيات التي تقف وراء سن القوانين والأعراف المجتمعية في هذه المجتمعات، فأخلاقياتها تسمح لأي من أفرادها بمعاقبة المرأة عند خطأها أو احتمال خطأها، وتسمح لها أيضًا في ذات الوقت بغض الطرف عن أخطاء الرجال وتبريرها، والتستر عليها.

حل كل ذلك بالعودة إلى نظام يحدد لنا الأخلاق وطريقة العناية بها، ومن ذلك العقوبات المترتبة على مخالفتها، ولا يمكن الوصول لنظام دقيق وثابت يحدد لنا أفضل الأخلاق ولا يتغير بتغير الزمن أو المكان، أو في حالة الزوج بتغير الحالة الاجتماعية، من أعزب إلى متزوج، إلا إذا كان هذا النظام من سلطة عليا تعرف أفضل ما يمكن أن يعود على البشر بالصلاح والاستقرار والازدهار، وهذا السلطة لا يمكن إلا أن تكون الخالق، فمن سواه يعرف خصائص النفس البشرية ودقائقها وما يصلح لها وما يفسدها. الوصول لهذا النظام مرتبط بشكل جذري بحقيقة الإيمان، لا يمكن أن تبحث عن نظام كهذا دون أن تؤمن في وجود خالق حكيم، ولا يمكن أن تكون مؤمنًا حقًا دون أن تؤمن بأن الله قد وضع هذا النظام وأحكمه بشكل يتناسب مع البشر وقادر بلا شك على أن يصلح مجتمعاتهم، وأنه أرسل رسله بهذا النظام في جملة ما أرسلوا به من الدعوة للتوحيد والعبادة، وأي شك في ذلك يعود لخلل في هذا الإيمان، وسوء أدب مع الله:

)وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ ۗ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ ۖ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ۖ وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ ۖ قُلِ اللَّهُ ۖ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ( [سورة الأنعام 91]

في وقت لا يمكننا فيه حقًا أن نركن لأنظمتنا الأخلاقية الداخلية والفضاء من حولنا يعج بكل المتناقضات الأخلاقية، والإعلام الجديد يخبرنا تارة بأن هذا مقبول وتارة بأنه غير مقبول، ويبجل ما يروق له، ويهجو ويقاتل ما لا يعجبه ولا يصب في مصلحة أسياده وجيوبهم، الحل في أن نعود للكتاب والسنة وأن نستقي منها الأخلاق النبيلة التي نتوق لها والتي حتمًا فيها نجاتنا من هذا الاضطراب الأخلاقي والعشوائية المخلة، وعلى أرضها الصلبة يمكننا أن نقف بحزم في وجه كل الادعاءات الأخلاقية المتناقضة والقائمة على الشهوات والنزوات والمتغيرات السياسية والاقتصادية. هذه المنظومة الأخلاقية الثابتة هي الحل الوحيد لنجاتنا من وضع مزري ومربك مثل وضع الرجل الذي لا يعرف حقًا لماذا لا يريد زوجته أن تعرض جسدها بالبكيني أمام الناس، وهو لم يكن يمانع ذلك قبل الزواج، وتحت الضغط يجد نفسه بابتسامة صفراء مضطرًا للسماح لها بالمشاركة مرة كل سنة، وتفرح هي ويتهلل الجمهور في مجتمع يفترض أن الزوجين متساويين لا يجب أن يقرر أحدهما عن الآخر، فيما يُكذّب الواقع المُضطرب هذه الافتراضات.


[1] برنامج حواري كوري يركز على هموم الناس في كوريا من مختلف الأعمار والأجناس. يقوم البرنامج على تلقي رسائل من الجمهور عن همومهم الملحة، ثم تطرح في الحلقة ثلاثة هموم منها في محاولة لفتح باب النقاش فيها واقتراح حلول مناسبة لها.

تعليقات

  1. أسأل الله أن ينفع بقولك وقلمك

    ردحذف
    الردود
    1. اللهم آمين.
      شكرًا لهذا الدعاء الصادق، فأنا في حاجة دائمة له؛ الكتابة مهمة خداعة قد تغريك ببريقها فتنحرف أحيانًا، وأحيانًا أخرى تنسى إخلاص النية.

      حذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الحنين وأشياء أخرى في رسالة

عن بغلة القبور

الرابط العجيب بين نشر إيران للتشيع، وغسيل إسرائيل الوردي!