كنا نباتات





لقد كنا نباتات تطفو على سطح الماء، حتى قيل لنا أن هناك حاجة ملحة لأن نصبح بشرًا. قاومنا في البداية لكننا أخيرًا صرنا بشرًا. وقد كان الأمر مقرفًا، خاصة هذه الأيام. سمعت أن البشر الأوائل لم يكونوا بهذا السوء لكن الزمن طال على البقية وزاد معه جشعهم وحبهم للقتل والرذيلة. ليس بوسعنا فعل أي شيء حيال هذا، فمازلنا نتصرف أحيانًا مثل النباتات. كما تعلم الطبيعة لا تموت في الأصل بسهولة، إنها فقط تختبأ عميقًا بداخله. وهناك تزداد حدة حتى تخترقه وتخرج أخيرًا. سمعت إشاعة بأن الحاجة لنا انتهت لكني أشك في مصداقيتها فمازال يطلب منا أن نتصرف كبشر. ولا أدري حقًا من بالضبط على هذه الأرض يحق له أن يحدد كيف يفترض بالبشر أن يتصرفوا. لكني لا حظت أن الأقوى والأغنى هم من يحددون كيف يتصرف البشر، وغالبًا لا تبدو لي تصرفاتهم منطقية أو حتى بشرية لكن من أنا  لأحدد ما هو البشري حقًا. كل ما أعرفه أن حياتي عندما كنت نبتة كانت أسهل بكثير. كل ما عليك فعله هو العيش مثل بقية النباتات على سطح الماء. لا شيء خاص تقدمه لهم ولا توقعات منهم.  لكن البشر مختلفون يتوقعون من الجميع أن يقدم لهم شيء، وأسوء من ذلك أنهم يتوقعون منك أن تكون شيء. لا يهم أي شيء تكون المهم أن يتوافق مع توقعاتهم حتى ولو كنت ذات يوم نبتة. حسنًا، علي أن أعترف، عندما كنت نبتة كنت أخاف كثيرًا من أن يلتقطني احد طيور الماء وينتزعني من جذري فأذوي وأموت، وعندما صرت بشرًا لم أعد أخاف ذلك فلم يعد لي جذور. أقصد كان لي جذور والآن لم تعد موجودة، وهذا أمر جيد فقد صرت أتمتع بحرية أكبر وقلت مخاوفي قبل أن تكثر وتكثر، فقد صرت أخاف على ما يدعونه المستقبل، وأحيانًا كثيرة أخاف منه. كما صرت أخاف من الأخر وأحينًا كثيرة لا أدري من هو الأخر بالضبط، قد يكون أنا وقد يكون أنت من يدري يقينًا. وصرت أخاف من الفقر والحرب والإرهاب وأطماع الدول العظمى وأكاذيب السياسيين. وقد تعلمت حيلة أو أثنتين، منها أن لا أسمع لأحد ولا أصدق أحد. وكلهما صعب للغاية فالنباتات تتواصل عبر طرق بسيطة وبعضها صعب علي شرحه، لكننا لا نتواصل إلا للضرورة ولا نوصل إلا الضرورة، غير أن البشر يتواصلون بطرق كثيرة، كثيرة جدًا ومعقدة. لا تحكمهم ضرورة ولا مصداقية، فكل منهم لديه ما يكفيه من الخطط والحاجات ليهتم بالمصداقية أو بأهمية ما يقوله ووقعه على البقية. إنه عالم مقرف يجعلني التفكير فيه أرغب بشدة في العودة لأصلي، لكن ماذا لو عدت بكل هذه الصفات التي اكتسبتها من البشر؟ أظن أني سأسمم الماء وبقية النباتات وحتى الحيوانات المسكينة، ألا يكفي ما تعانيه كل يوم بسبب البشر؟ أقصد ليست كلها مسكينه فبعضها يحب أكلنا كثيرًا، وهذا يذكرني بالبشر فبعضهم يعتقد أن أكلنا سينقذ العالم. أعتقد أن العالم منهك من أكلهم بعضهم بعضًا، ولو توقفوا عن ذلك لعقد من الزمان لأصبح كل شيء بخير، حتى الحيوانات المسكينة في المسالخ النتنة ستصبح بخير. أعتقد أنني أكثرت الكلام عن بني جنسك، أعذرني! اعذرني! إنه فقط عالم غريب لا يسعني سوى .. لعنه أحيانًا، وأحيانًا كثيرة أحب أن أسبه أمام أحدهم فذلك يشعرني بأنني أفضل من البقية.

تعليقات

  1. رائعة ، و عميقة ، و لها مغزى مختبئ بين الحروف .
    كلنا ننتمي للأرض ، كلنا خرجنا من جذر ٍ واحد ، لكننّا نصر على التصرف كنباتات متسلقة تعلو فوق بعضها البعض ، أو ربما نبات طفيلي ، يتغذى على الآخرين . أرهقنا التفوق ، و نسيّنا جذرنا الأول و الأوحد
    استمري ، استمتعت بالقراءة

    ردحذف
    الردود
    1. يسرني أنكِ استمتعت بالقراءة، وأعجبني تفسيرك لفكرة القصة الرئيسية، تفسير عميق بذاته، مليء بالحكمة والصدق مع الذات. أعتقد أن هذا جزء من سحر الكتابة، أن تكتب وأنت تحت تأثير فكرة ملحة أو شعور معين، وفي اللحظة التي تنشر فيها عملك يصبح ملك لكل العقول وتفقد سيطرتك عليه، ومن جمال ذلك أن يصادف عقلًا جميًلا مثل عقلك.

      حذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الحنين وأشياء أخرى في رسالة

عن بغلة القبور

الرابط العجيب بين نشر إيران للتشيع، وغسيل إسرائيل الوردي!