الراقد في البئر



كنا نقضي أيام الصيف غالبًا نلعب في مزارعنا القريبة. كانت تحوطها أشجار الفاكهة الكثة فلم يكن لأحد أن يخمن ماذا نفعل خلفها، لم نكن بالضرورة نمارس أفعال سيئة لكننا لم نكن  نخاف كثيرًا على حيواتنا القصيرة. فكنا نمشي حفاة على الحواف الحجرية للآبار العميقة، ونتسلق أغصان الأشجار النحيلة والتي لم تكن متسامحة كثيرًا معنا، فكانت تسقط صبي كل بضعة مرات، وعلى الأرض كنا نتظاهر بأن الخدوش والكدمات من السقطة لا تعني شيء ولا تستدعي دموعًا. وفي موسم المطر كنا نخوض المستنقعات حتى الركب ونخفي رعبنا من ما يخفيه لنا ماءها الداكن. وعندما نجد حفرًا في الأرض كنا ننبشها حتى يتمكن منا الخوف من أن ينقض علينا شيء من داخلها، فنتوقف متظاهرين بالتعب. وبين حين وآخر نتنمر على بعضنا ونتعارك، وعندما نريد أن ننفس عن غضبنا كنا نرمي أعشاش العصافير بالحجارة، وكانت تسقط دامية أحينًا، فلم تكن كلها خالية. لم نكن نقصد أذيتها لمجرد أذيتها لكننا كنا نستعذب الشعور بالقوة والقدرة. وقد نعود للحظائر فنطارد فراخ الدجاج ونخرج صغار الأرانب من جحورها، ونحاول استحلاب الماعز. لكننا دائمًا نعود للمزارع بعيدًا عن مرأى الكبار، حيث لا ينهرنا أحد عندما نمارس الأذية ويصعب علينا التفريق بين الصواب والخطأ.
ذات يوم وبعد هطول المطر وجد أحدنا ضفدع متينًا على حافة بركة مياة صغيرة، فالضافدع تحب الماء لكنها أحينًا تضل طريق البرك الكبيرة البعيدة وتقع في المتاعب. ولم تكن متاعب هذا الضفدع من النوع الهين، فقد وقع في يد أكثر ابناء عمومتنا جنونًا. كنا قد تعلمنا كيف نبتعد عن نوع معين من المشاكل، إنها المشاكل التي تأتي من التدخل في شؤون ابن عمنا هذا أو حتى اللعب معه. ولم يكن يلعب مع الضفدع، بل كان يجرب عليه شيء جديدًا. أخذ غصن شجرة قوي وأخذ يضربه به، ولدهشتنا جميعًا لم يمت الضفدع، لكنه خرج شيء أبيض شحمي من فمه فلما ضربه مرة أخرى ابتلعه الضفدع، ومع الضربة الثالثة ثلغه مجددًا، وهكذا ظل يضربه ليراه يبتلعه ثم يثلغه يبتلعه ثم يثلغه. شعرنا بالاشمئزاز والقرف، وربما حاولنا إيقافه لكننا استسلمنا واحدًا بعد الآخر، وتركناه وشأنه كما تعلمنا من تجاربنا معه، بينما بقي الصغار يراقبون الضفدع يتعذب مرة بعد أخرى والضرب لا يتوقف.
بعد عدة أيام وعندما بدأت الشمس في المغيب سمعنا صوت ارتطام قوي من جهة البئر ومعها صوت طرطشة ماء عالية. لم يكن الصوت يشبه الصوت الذي تحدثه الصخور الكبيرة، التي كنا نبحث عنها عمدًا في المزارع المجاورة لنرميها في البئر من بين الشباك الحديدية، التي ثُبتت بعشوائية بأحجار وقليل من الإسمنت على البئر لتجنب الحوادث. وهذه البئر شهدت الكثير منها، فقد سقط فيها ثلاثة رجال، وامرأة، وجمل، وصبي. وهذا الصبي لم يكن غير ابن عمنا المجنون. كان وبضعة صبية آخرون يعملون منذ أسابيع على فتح فتحة في الشباك ليتمكنوا من رمي أشياء مختلفة بداخل البئر، وأكثر من ذلك كانوا يخططون للنزول فيها والعبث بأعشاش الحمام التي تبنيها بين صفوف حجارة البئر. تحلق من كان منا موجودًا وقتها حول البئر، وصعد بعضنا على حافتها بحذر. تأملنا المصروع في قعرها ولم يكن المنظر يسر. ناديناه باسمه مرارًا لكنه لم يرد، وتيقنا أنه مات فالمسافة حتى القعر لا تشبه كل المسافات التي هوينها من قبل. إنها لا تترك كدمات ولا رضوض وكسور،  بل تترك الجسد خالي من أي روح كانت تسكنه، تمامًا مثل عش اسقطناه عمدًا من على شجرة.
افترقنا في منظر مهيب، زمرًا وأفرادًا، وتركنا صاحبنا ثاويًا في مرقده الأخير. وحل الصباح دون عزاء، فأيًا منا لم يخبر أحدًا بالحادث المؤسف في المزرعة. كان صاحبنا مجنون، لكن والده كان أكثر جنون منه، لم يكن يضرب الضفادع بالعصى فقد كان يخص الصبية بها لكل الأسباب التي تروق له، ولا تروق لغيره. ولم نتبادل الأكاذيب عندما سُألنا عنه، فكل منا احتفظ بكذبته لنفسه، ولم نتحدث عن الأمر مطلقًا، وهجرنا تلك المزرعة على أنها كانت أحب المزارع لنا، إلا أننا تركناها للراقد في البئر، لعله يخرج منها في الليل ليضرب الضفادع، أو يعوي مع الكلاب.
صرنا نجتمع للعب وكأننا نجتمع لنمارس طقوس حداد غريبة. نجلس على هضاب الطين التي تفصل المزارع، وتحت الاشجار نخطط في الارض بالأغصان في صمت لا يليق بأعمارنا، قبل أن نتشاجر ونتعارك بعنف. فقط الذين لا يعرفون السر يلعبون. وأحيانًا كان ينهض أحدنا، غالبًا عند المغيب قبل أن نفترق، وقد يتبعه آخر ليلقي نظرة على الميت في قبره العميق ويجمع المزيد من الكوابيس، وفقط الذين لا يعرفون السر لا يسترقون النظر ولا يعرفون الكوابيس. كان ينتفخ كل يوم ويصفر حتى أسود، ثم بدأنا نشم رائحته العفنة حتى أخذ الذين لا يعرفون السر يبحثون عن مصدر الرائحة، ظنوا أنها ربما تنبعث من حيوان ما، وأثارتهم فكرة مراقبته وهو يتعفن.
استمر البحث عن مصدر الرائحة عدة أيام، حتى مُنعنا ذات يوم من الخروج للعب، وكان ذلك اليوم الذي وجدوه فيه، رقادًا مثلما تركناه وشأنه في أول ليلة له في بئره.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الحنين وأشياء أخرى في رسالة

عن بغلة القبور

الرابط العجيب بين نشر إيران للتشيع، وغسيل إسرائيل الوردي!