حليب أسود: أكون أماً أو لا أكون!



قرأت السنة الماضية حليب أسود لإليف شفاق. تأخرت كثيراً في اقتناء الكتاب بعد أن صدر أخيراً عن دار مسكيلياني للمترجم أحمد العلي. كنت أقرأ ترجمته للفصول الأولى على مدونته "نهر الإسبرسّو" قبل أن يتوقف عن نشرها على المدونة لأن الفصول صارت معقدة.

اعتبر الكتاب أطلس للنساء النسويات، فقد بالغت إليف في ذكرهن وسرد قصصهن حتى نسيت أن الكتاب يطل علينا بعنوان "حليب أسود"، شيء قدمته في البداية على أنه اكتئاب ما بعد الولادة. شيء بشع لكنه يصيب الكثيرات، زميلة عزيزة علي تعاني منه حاليًا. ولأنني عانيت طويلًا من الاكتئاب كنت مهتمة جدًا بمعرفة ما قد ينتظرني إذا أصبحت يومًا أمًا، تمنيت لو أنها تحدثت أكثر عن اكتئابها لكنه جاء متأخرًا في الفصول الأخيرة ولم تشبعه ضربًا بالكلام كما تمنيت بعد أن أُتخمتُ بكل أولئك النسوة.

تُعرفنا إليف في الكتاب بنسائها الصغيرات، المثقفة والدرويشة والأم والعملية وغيرهن، وتذكرني بمرحلة من عمري كنت اعتبر رأسي سلطة عليا يديرها ثلاثة نساء، الغاضبة والمتسامحة واللّوامة، لكن شيء ما حدث ولم أعد أشعر بوجودهن المنفصل، أصبحن واحدة. لكن هذا لا يلغي حقيقة أنني كل امرأة صغيرة وجدتها إليف، ربما لست قصيرة بما يكفي لأكون واحدة منهن لكنني غريبة بما يكفي، أو ربما طبيعية بما يكفي لأن أجدهن كلهن فيّ. أعتقد بأننا جميعًا كذلك، نحن مثقفات وعمليات ودرويشات وأمهات ومثيرات وثوريات وكل ما يمكننا أن نكونه، دون أن نرى نساء صغيرات أو نسمع أحاديثهن.

لم تكن رحلتي مع الكتاب سهلة على الإطلاق، فهو يطرح كل تلك الأفكار عن الزواج والأمومة على أنهما خياران، خياران لا أملك أي منهما. وهذا أمر مؤرق بقدر ما هو مؤسف. على الرغم من أنني لست نسوية إلا أن ما سأقوله الأن قد يجعلكم تعدونني واحدة. فأنا أؤمن بحق المرأة في اختيار شريك حياتها، ولا أقصد بذلك الزواج عن حب. الحب، لأكون واضحة وصريحة شيء يأتي مع المعاشرة، أنتِ لا تحبين شخصًا من أول نظرة -غالبًا- لكنكِ تنجذبين إليه لأنكِ وجدتِ فيه شيء يذهلكِ، أو ربما يشبهكِ، شيء يرضيكِ أن تتعرفي عليه أكثر وتتعايشي معه، ثم يأتي الحب. ومن وجهة نظري فإن كل العلاقات تمر بشيء مشابه. نحن نرى شيء يعجبنا في أحدهم فنجد طريقة لنتقرب منه ونكوّن علاقة معه، نوع هذه العلاقة لا يشكل فارقًا كبيرًا فهناك دائمًا مشاعر مصاحبة لا تخرج عن المودة والحب وربما الكراهية.

الحب بالنسبة لي ليس الفيصل، فمن السهل أن تحب شخصًا جيدًا تحترمه وتميل إليه منذ البداية، لذلك هو لا يشكل المحور الأساسي في نظرتي للزواج. المهم بنسبة لي هو ما أعرفه ويشدني في الطرف الآخر، ومدى أهمية ذلك بالنسبة لي، لو رأيت رجلًا خلوقاً واعيًا ونبيلًا، ألا يكون ذلك سبب كافي لانجذابي له، وربما رغبتي في الزواج به. وهنا تكمن المشكلة، فلا يهم حقًا أن أجد رجلًا تنطبق عليه المواصفات أعلاه، فوجوده من عدمه لن يقدم ولن يؤخر في مسألة الزواج وكون الاختيار فيه محصورًا على الرجال وأمهات الرجال في مجتمعنا.

ربما تجدونني بالغت كثيرًا، ربما ترون أنني أخدش حياء البنت التي صمتها موافقة، لكن صمتي لن يزوجني برجل أرضاه مالم يتقدم هو لخطبتي. فماذا لو وجدت الرجل الذي أريده لكنه لا يعرف بوجودي، هل ألتزم الصمت؟ أم ربما علي أن أبحث عن أمه لترضى عني بعد أن تجري اختبارات القبول التي فرضتها العقلية المجتمعية عليها قبل أن تفرضها العقلية الذكورية: الطول، الرشاقة، البياض، وغيرها. ولأقول الصدق أنا لست ضد هذه المعايير، فكل شخص له كامل الحق في رسم صورة واضحة لنفسه ولغيره عن السمات الخَلقية والخُلقية التي يحبها أن تكون في شريك حياته، وللجميع كامل الأحقية في البحث عمن تنطبق عليه تلك السمات وطلب يده للزواج.

وللعلم فإن رأي هذا لا يتعارض مطلقًا مع طبيعتي المحافظة فهو شيء يقره الشرع:
عن ثَابِت الْبُنَانِيِّ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَنَسٍ، وَعِنْدَهُ ابْنَةٌ لَهُ، قَالَ أَنَسٌ: جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْرِضُ عَلَيْهِ نَفْسَهَا، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَكَ بِي حَاجَةٌ؟
فَقَالَتْ بِنْتُ أَنَسٍ: مَا أَقَلَّ حَيَاءَهَا، وَا سَوْأَتَاهْ! وَا سَوْأَتَاهْ! قَالَ: هِيَ خَيْرٌ مِنْكِ، رَغِبَتْ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهَا. رواه البخاري ( 4828 ).
والآن ماذا بعد؟ هل أريد أن أتزوج؟ هل أريد أن أكون أمًا؟ ماذا لو أردت الأثنتين؟!

علي أولًا أن أحقق الشرط الأول، فعلى عكس إليف لابد أن يكون أيوب زوجي أولًا حتى أكون أمًا لأولاده ثانيًا، شرط بديهي بالنسبة لي. وكما أوضحت سابقًا الشرط الأول مرهون بانتظار النصيب والصمت. سمعت كثيرًا بأن من تفكر في الزواج لا تتزوج ومن لا تفكر فيه تتزوج، هذا ليس إلا موروث شعبي، ربما نوع من التطير بالتفكير والرغبات. ولو صارحت أحداهن بأنني لا أمانع الزواج بل أنني أرحب بالفكرة فقد تنظر إلي على أنني تقليدية، جاهلة ومسكينة أعتقد أن الزواج كل شيء في الحياة، وستحاضرني رضوى الشربيني الكامنة بداخلها، حتى لو كانت هي نفسها متزوجة، وتنسى كامل حقي في الرغبة في الأمومة. الأمومة التي لابد أن يسبقها زواج.

لقد عبثت بي إليف جيدًا، فهي لم تبعث بداخلي كل تلك الأسئلة عن رغبتي في الزواج والأمومة فحسب، بل جعلتني أفكر في قدرتي عليهما. لو نظر أحدهم لكل الأنشطة التي أمارسها في يومي لربما وجدني مناسبة للعب دور الأم، لكن هل أنا كذلك حقًا؟

أكذب إن قلت أنني أعرف جوابًا قاطعًا، لكني أعرف أنني أحب أن يكون لي صغار ينتمون لي، أحبهم بلا شروط ويحبونني كذلك بلا شروط، حب صادق نابع من فطرنا. هذا النوع من الحب من حق الجميع في نواميسنا البشرية، لكنه أقدار محضة مثل كل شيء آخر: )للهِ ملكُ السمواتِ والأرضِ يخلقُ ما يشاءُ يهبُ لمنْ يشاءُ إناثًا ويهبُ لمنْ يشاءُ الذّكورَ * أو يُزوِجُهُمْ ذُكرانًا وإناثًا ويجعلُ منْ يشاءُ عقِيمًا إنهُ عليمٌ قديرٌ(. لكنني في الوقت ذاته لا أحب هذا العالم الذي نعيش فيه اليوم، رغم أننا نحن من جعله هكذا. وهنا يظهر السؤال الأسوأ، كيف لي بكل أنانية أن أفكر في أن أنجب أطفالًا؟ لأي زمن أريد أن أقدمهم؟ ومن لهم في هذا العالم القاسي لو متُ وهم صغار؟ وكيف سأكف أيدي العالم القذرة عن لمسهم والتدخل في شؤوننا والعبث بعقولهم؟ سيكون جهادًا عظيمًا. وكل هذا يشعرني بالمرض واليأس ثم يقودني لرضى بحالي. 

وقت قرأت الكتاب لم أكن قد نشرت روايتي بعد، بل أظنني لم أكن قد أنهيتها حتى، وكنت أفكر في أنني لن أستطيع الكتابة وستضمر قدرتي على اختلاق الحكايات إذا انشغلت طوال الوقت بالطبخ والتنظيف والاعتناء بالصغار، حياةٌ لمّحت إليف كثيرًا عبر سردها لحيوات النساء في كتابها أنها نتيجة للأمومة وسبب كافي ليدفع بكاتبة للانتحار. 

أفكر أحيانًا في الارتباط برجل ضد التناسل، لكني لست أكيدة من قراري وأتساءل كيف يمكن لبعض النساء أن يجزمن بعدم رغبتهن في الإنجاب للأبد؟ كيف يتخذن قرارًا بالعقم لا رجعة فيه؟ هل يتمتعن بهذا الحسم والجزم في كل أمور حياتهن؟ لا أعرف كم مرة قلت أنني لن أفعل هذا أو ذاك، أو أنني لا أحب كذا وكذا، ثم أعطيت نفسي فرصة لأجربه وغيرت رأيي، أو على الأقل خففت من حدة رفضي له. لعلها طبائع فحسب تمنعني من اتخاذ قرار نهائي وتسمح لغيري بفعل ذلك.

أكثر ما يخيفني مؤخرًا هو أن أصل لمرحلة من الرغبة الشديدة في الحصول على طفل. لقد شاهدت ذلك في نساء عزباوات على مواقع التواصل، كل ما يرغبن فيه هو الحصول على طفل، ولا يتوانين عن طلب الدعاء لهن بذلك. أنا هنا لا أنتقدهن لكني أخاف أن أصبح واحدة منهن، فالرغبات شيء مخيف، مخيف جدًا عندما تسيطر على كل تفكيرك وتشعرك بالنقص والضعف والحاجة. 

زميلة لي في الأربعينات سألتها ببلاهة: "هل لك بنات؟" في بداية تعارفنا عندما أخبرتني بأنها خرجت من البيت ولم تجلي أواني الغداء، وكنت إجابتها "لا، لم أرزق بأبناء" وأخيرًا قادنا الحديث إلى أن تخبرنا بأن أبناء أخواتها مثل أبنائها تمامًا بل لعلها لو أنجبت أولادًا ما كانوا ليكونوا مثلهم. ومثلها رزقني الله ببنات أخت رائعات ومميزات، جميلات ومبهرات، وذكياتٍ جدًا، أحبهن كما لم أحب أحد قط، وهذا يكفيني بلا أدنى شك. ففي النهاية مسألة الأمومة ليس مسألة يمكنني أن أجزم برأي فيها، إنها كما يحب أبي أن يقول عن الزواج "نصيب". تحققها من عدمه شيء يشبه كل شيء نريده أو لا نريده في الحياة، قد يأتي وقد لا يأتي، إنها: نصيب. 

بشكل عام لقد استمتع كثيرًا بقراءة الكتاب فأنا أحب الكتب التي لا توافق مبادئي كثيرًا وتمتحنها، والتي تطرح أسئلة ووجهات نظر جديدة ومختلفة وتدعوني لتأملها والتفكير فيها، لكني لم استمتع كثيرًا باستعراض إليف المتكرر لقراءاتها وثقافتها النسوية خاصة منها، وشعرت بأنها فقط تملي علينا ما قرأته لأنها قرأته، وما تعرفه لأنها تعرفه، وكما صرحت إحدى نسوتها بأنه لا فائدة مما نعرف ونقرأ مالم نشاركه مع غيرنا، لكنني أخالفها الرأي فقراءاتنا تُأثر في طريقة تفكيرنا وكتاباتنا ولا حاجة لنا باقتباس كل ما يمكن اقتباسه وذكر اسماء كل من قرأنا لهم لنُظهر تأثرنا بما قرأنا واطلاعنا الواسع. كما لم أفهم تسليطها الضوء على السحاقيات والتقاطها لوجودهن كثيرًا، حصلتُ على انطباع بأنها تريد إظهار دعمها وتأييدها لهن وربطهن بطريقة ما بالحركة النسوية. ورغم أنني بعد قراءة حليب أسود -غالبًا- لن أقرأ مجددًا لأليف، إلا أنني أنصح كل النساء بقراءة الكتاب والاستمتاع به، ومشاكسة أنفسهن قليلًا بالتفكير في كل ما طرحته وفي كل ما يعرفنه عن أنفسهن.

شيء أخير أود التعليق عليه، لكنه لا يتعلق بالكتاب ولكن بالترجمة والمترجم. أود أن أبدأ بمديح الترجمة فهي أكثر من رائعة تعطي انطباعًا بأن الكتاب أُلف بالعربية دون أن يمس ذلك بجمال الأصل. المفارقة الوحيدة أن الكتاب نسوي بالدرجة الأولى، وكما يحدث عادة في مجتمعاتنا فإن الرجل يحب أن يكون صوت المرأة. أنا لست ضد المترجم ولست نسوية لكنني تساءلت كثيرًا كيف لرجل أن يختار هكذا كتاب ليترجمه لهكذا مجتمع، رغم أن كاتبته نسوية وموجه بالدرجة الأولى للنساء والنسويات خاصة منهن. الكتاب يتناول قضية الأمومة كخيار واختبار للنساء المبدعات. قد تقرأه أي امرأة وتجد فيه شيء يخاطبها، ومع ذلك أجد اختيار المترجم له حركة تقليدية نمطية نراها تتكرر كثيرًا من رجال مجتمعنا. نوع من الوصاية الفكرية اللا مباشرة. فكما نعرف أن المترجم بوابة للثقافات والأفكار، تعبر من خلاله وغالبًا باختياره الدقيق لها.

أتمنى أن لا يجد المترجم في هذا هجومًا عليه، ولو وجد أحدهم في هذا هجومًا على المترجم فليتذكر أن لكل منا وجهة نظر ليس لأحد أن يكون وصيًا عليها.

ذكرت سابقًا أن زميلة عزيزة علي شكت لي مؤخرًا من اكتئاب ما بعد الولادة فلجأت لصديقتي وابنة خالتي سمية لتعطيني شيء من النصائح لها إذ أنها طبيبة نساء وولادة، ورأيت أن أشارككن هذه النصائح لعلها تنفع:

·        من الطبيعي أن تمر بعض النساء باكتئاب ما بعد الولادة لكن ليس من الطبيعي أن تهمل نفسها.

·        عليها أن تستشير طبيبًا وأن تلتزم بالأدوية ولا تنقطع عنها إلا باستشارته، ولو لم ترى تحسنًا فقد تحتاج بضعة أسابيع لترى مفعولها.

·        قد يستمر الاكتئاب لعدة أسابيع وقد يبدأ بعد عدة أسابيع من الولادة.

·        يجب أن لا تتردد من يصيبها اكتئاب ما بعد الولادة في طلب المساعدة من أهلها وأصدقائها المقربين، وتصارحهم باكتئابها فوجود الناس حولها أمر مهم.

·        تصاحب الاكتئاب عادة وساوس قد تشتد وعلاجها بتجاهلها التام وعدم الانسياق خلفها والالتزام بذلك .

·        ما تمر به الأم بعد ولادتها من اكتئاب أمر خارج عن إرادتها، لذلك عليها أن تفهم أنها ليست مُقصِرة ولا تضغط على نفسها، أو تلوم نفسها وتجهدها.

·        وقبل كل هذا وذاك لا بد أن تلجئ إلى الله بصدق وتوكل أمرها عليه.





تعليقات

  1. قلمك لذيذ جدا ً و وجهة نظرك أنيقة.
    لم أقرأ كتاب( أليف) لكن مراجعتك أثارت حماستي لقراءته خصوصا أني قرأت لها كتاب أصنفه من أفضل ما قرأت ( قواعد العشق الأربعون ) و أوصيك بقراءته ان أردتي مزيداً من الأفكار الصادمة لكن هذه المره لست في مسأله اجتماعية كالنساء و الزواج و الأمومة، بل شيء في صميم الروحانيات و الدين و التصوف الاسلامي .

    عموما وجدت أن وجهة نظرك في الزواج خجوله نسبياً و مليئة بالتبرير و كأنك تخشين أن تُفهمين بطريقة خاطئة وهو شيء ممكن أن أفهمه تماما في ظل مجتمع لازال ينظر للمرأة التي تتحدث عن الزواج بشيء من الريبة وهو ما تحاول _ربما_ تلك الحركات النسوية كسره . لكن خذي مني وجهة نظري هذه :80% من الزواج و نجاحه يعتمد على المرء نفسه من حيث نظرته لذاته، نظرته للزواج، نظرته للجنس الآخر، فا الله قطعاً لا يرمي بالنرد، و لا نحن نتزوج كخبط عشواء ، نحن 100% ننال ما نستحق ، سواء تزوجنا من خلال علاقة مسبقة أو زواج تقليدي و الا ما مبرر الطلاق في مجتمعات تستطيع الزواج بمن تريد في ظل علاقات تمتد لسنوات آحيانا؟

    استمتعت بطرحك و استمتعت بالكتابة هنا
    كامل محبتي

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الحنين وأشياء أخرى في رسالة

عن بغلة القبور

الرابط العجيب بين نشر إيران للتشيع، وغسيل إسرائيل الوردي!