موسم المطر

 


بعد أن انهار بيت جدي الطيني البارحة لم استطع الخلود إلى النوم، تقلبت طوال الليل في السرير أستمع للرعود تدوي في الخارج، مثل سياط تبرح الغيوم جلدًا، حتى أمطرت، مطرًا خفيفًا متتابعًا، لم يتوقف إلا قبيل الفجر بقليل، بعد أن أعاد ملأ البرك التي ارتوت الأرض منها ولم تنفد، وغسلَ القرية التي لم تجف بعدُ منذ هطل هذا النهار.

خرجتُ بعد الشروق أتفقد بيت الطين المنهار، واستقلبتني رائحة الأرض بعد المطر، لم يهطل المطر بهذا الغزارة من قبل، على الأقل في حياتي. لم يكن الجزء المنهار كبيرًا لكن الضرر قد وقع، ولا يمكن إزالته بدون المساس بجمال البيت وأصالته. وأما عالم القرية الصغير فقد تغير كثيرًا، لا شيء يشبه ما اعتدت عليه، كل شيء صار أخضر ومبتل. الحقول أصبحت مثل المستنقعات، معشوشبة ومليئة بالبرك، وفي عز خضرتها كانت الأشجار النامية بعشوائية على أطراف الحقول مثل فاتنات في عرس، والبيوت مثل خراف متناثرة بين المزارع وعلى سفوح الجبال، وادعة وآمنة، بعكس بيوت الطين التي أشبعتها الأمطار غرقًا.

لوهلة شعرتُ بأنني لا أنتمي لهذا المكان، فيما بدا كل شيء آخر مستمتع به، وكأنه خلق لهذا الفصل، ولهذا الموسم. الحمام ترعى في الحقول. الحمام التي اعتدتُ رؤيتها تتزاحم على سقف سقيفة الخراف أو على أسلاك الكهرباء، ترعى اليوم على أرض الحقل الخضراء في انسجام وطمأنينة. وعلى سور البيت الخرساني يقف صقر يتناول بحذر طريدته الصغيرة. كان بإمكاني سماع صوت اللحم والعظام وهو يمزقها بمنقاره الحاد، ولعله شعر بي أراقبه فطار وترك وراءه بقع داكنة على السور الأبيض، وكذلك طارت الحمام في الحقل المجاور لحقلنا.

أخذت السماء ترشنا مجددًا بالرذاذ الخفيف، وشعرت ببيت الطين مذعورًا من هذا البلل المستمر، وأنا ارتجف من البرد، بينما كانت الحياة من حولنا مشغولة بصباحها، لم يوقفها هذا البلل عن المضي في البحث عن رزقها، حتى اختلطت علي أصواتها، كثيرة ومنسجمة، رفرفة أجنحة وأصوات طيور مختلفة: دوري المنازل، والبلبل أصفر العجز، واليمامات الصغيرة، والحمام، والدجاجات والديكة، والزرزور الأسود الذي كان يقف على الأرض قريبًا من أشجار الفرسك، ثم طار ووقف على السور. لوهلة قد تعتقد أنه غراب صغير، لكن اللون البرتقالي الفاقع على أطراف أجنحته سيثبت خطأك. ولم يلبث أن طار هو الآخر. ومن بعيد سمعت ثغاء ماعز صغيرة يتردد من خلف البيوت في الطرف الآخر من القرية، ثوانٍ ثم صمت، وغير بعيد سمعت عويلًا خفيضًا لكلب، ربما يبحث عن الماعز الصغيرة.

عاد الصقر الصغير يحلق على مسافة قريبة جدًا من الحقل، يبحث عن الضفادع والفئران. ألتقط شيئًا، ثم وقف على أحد الأعمدة الحديدة الصدئة التي يحوط بها أبي الحقل، وأخذ يلتهم طريدته الجديدة، وطوال الوقت كان يطلق صيحات قصيرة متتابعة. لونه الترابي الفاتح يلائم الجبال أكثر، ومع ذلك بالكاد تمكنت من رؤيته يحوم فوق الحقل الأخضر. وأمام أشجار النظار في آخر الحقل كان الهدهد يطير ذهابًا وإيابًا، ويبدو كطائر اسطوري كالعادة، وحيد وجميل، لا يمكن أن تراه في غير الصيف.

وقف غرابان فوق رأس بيت الطين المنهارة، وانتشر نعيقهما في أرجاء السماء. لا الشمس ولا الرياح العاصفة استطاعت النيل من بيت جدي الطيني، لكن وحدها الأمطار جعلته ينهار، لا يمكنه إلا أن يشتاق للشمس، الشمس التي تجعل الصخور تبدو وكأنها تعرقت وبدا عرقها في التبخر، الشمس التي تخدعنا بالسراب على الطرق الإسفلتية. شمس الظهيرة التي تحبها السحالي الزرقاء والجنادب الصفراء، لكن من حيث أجلس الآن، ومن حيث يقف هو، كانت السماء لا تبشر سوى بمطر غزير، لا أثر لأشعة الشمس على رؤوس الجبال وواجهات البيوت، فقط سماء رمادية في الأعلى، وبرك بنية تعكس السماء بشكل أكثر قتامة على الأرض.

وبينما بدا كل شيء متماهٍ مع هذا الموسم النادر تمنيت سرًا، أنا وبيت جدي الطيني، أن يعود كل شيء لحاله، حيث السماء زرقاء، والشمس حارقة، والجبال جرداء، والصخور تتعرق ويتبخر عرقها. أردنا فقط أن نشعر بألفة المكان التي افتقدنها.

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الحنين وأشياء أخرى في رسالة

عن بغلة القبور

الرابط العجيب بين نشر إيران للتشيع، وغسيل إسرائيل الوردي!