اللحظات الأخيرة تحت الشمس

 

*                                            


نحن الشراغيف الصغيرة نتيجة حتمية لغرائز الكبار الملحة، التي تدفعهم للنقيق طوال الليل والقفز لمسافات بعيدة، وهذه الغرائز تأتي بالكثير والكثير منا، مفترضة أن الكثرة تزيد فرص النجاة، لكن المطر لم يهطل اليوم أيضًا، ربما ما زال في استراحة قصيرة أقصى الجنوب، وربما لم يكن في أقصى الجنوب فنحن لم نعش كفاية لنسأله بعد أن يعود أين كان منا؟ ومع غيابه طوال الأيام الماضية عربدت الشمس في السماء كل ضحى، وشربت ما قدر لها أن تشرب من بِركنا الصغيرة. حاولت الغيوم العقيمة أن تحد من نهمها، فكانت تأتي متأخرًا كل نهار لتحجبها عنا، ولكن الضرر كان يزداد ولا ينقص، بعكس الماء، حتى استيقظنا اليوم محشورين في بركة صغيرة، بالكاد تجد فيها متسعًا لتحرك ذيلك، لقد كنا بقعة مكتظة من الرؤوس السوداء والذيول القصيرة.

في بداية الحياة التي عرفناها كانت البركة باتساع العالم، وكان يمكن رؤية خنافس الماء تسبح هنا وهناك، وأحيانًا كان يمكننا أن نلمح أسماك فضية صغيرة، وأفواجًا من يرقات البعوض تتنفس من أنابيب خارجة من مؤخراتها الملتصقة بسطح الماء، وفوق الماء كانت تذهلنا اليعاسيب الملونة تشاكس بعضها في الهواء قبل أن تبدأ في صنع الصغار، الصغار الذين يحبون أكلنا، مثل كل شيء آخر داخل هذه البرك، فتعلمنا كيف نختبئ منهم تحت الصخور الكبيرة وأوراق نفل الماء المحتشدة عند الضفاف، ولكن مع تناقص الماء ماتت الأوراق وتعرت الصخور، ورحل الكثير من جيراننا المفترسين، ولم يبق غير يرقات البعوض، وذبابٌ لامعٌ يحوم فوقنا طوال النهار.

ارتفعت الشمس وتجاوزت رؤوس الجبال الفضولية، وبدأت نهارها برشفات صغيرة من بركتنا الداكنة، وخذلتنا خياشيمنا البدائية، فمات الصغار، وبقي أولئك الذين استطاعوا تنفس الهواء، لكن حتى هم لم يكن في مقدورهم الاعتماد على الهواء تمامًا ورئاتهم لم تكتمل بعد، وبدأوا ينقلبون على ظهورهم، ساكنين بلا حراك، ثم جاءت الطيور وبدأت تلتقمنا بمناقيرها الدقيقة، واحد بعد الآخر لتأخذنا للصغار الجوعى في الأعشاش، وتبعها النمل يفترس جثثنا الطرية، يقطعها ويتقاسمها على مستعمراته الكثيرة، ولم تصل الغيوم إلا وقد جففت الشمس البقية، مثل حفنة من الزبيب منثورة على أرض يابسة. كان العالم يتكالب علينا تحت الشمس، في وضح النهار، على مرأى من الجميع، ولا جديد! فالصغار يموتون دائمًا تحت الشمس، في وضح النهار، على مرأى من الجميع. الجديد .. هو لحظة ولادتهم كل يوم!


______________________

Frog and tadpoles (1900 - 1930) by Ohara Koson (1877-1945).


تعليقات

  1. قصة حزينة لكن محتواها لأمس القلب
    أعجبتني كلماتك و انتقائك للكلمات
    و ايضا قليل من يفكر بل نادر
    من يفكر ان يكتب قصة عن صغار الضفادع
    عجبتني البداية و كيف اخبرتينا لما هم موجودين و سنة الحياة و زي كذا .. و حبيت الوصف تشعرني انتي جالسة أراهم عن قرب بأجواء وصفتيها بدقة رائعة .. ابدعتي يا جميلة .. استمري بقلمك المبدع

    ردحذف
  2. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    معك بدور. وانا طالبة ماجستير واعمل بحث حول اللغة المستخدمة في المدونات.
    أحد أدوات البحث استبيان عن التناوب اللُغوي بين اللغة العربية الفصحى والدارجة في المُدونات.
    أتمنى التكرم والإجابة عليه ونشره بين المُدونين إن أمكن. شاكرة حسن تعاونكم.
    الاستبيان:
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    هذا الاستبيان يسعى لدراسة ظاهرة التناوب اللُغوي في الكتابة بين المُدونين والمُدونات.
    أتمنى من كتاب المدونات رجالًا ونساءًا التكرم بالإجابة على أسئلة الاستبيان الآتي.
    شاكرين لكم حسن تعاونكم.
    https://forms.gle/1QMCH9aQbRYv39DR9

    ردحذف
    الردود
    1. تم عزيزتي، وأرجو لك التوفيق والسداد.

      حذف
  3. حبيت وصفك و سردك تسلم اناملك المبدعة 💖

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الحنين وأشياء أخرى في رسالة

الرابط العجيب بين نشر إيران للتشيع، وغسيل إسرائيل الوردي!

مراجعة فيلم: The Big Sick