كآبة


Be-Wary-of-the-Dark-Places-Painting-by-Andy-Kehoe*


عزيزي، أتعرف ماذا يعني أن تلازمك الكآبة.
أن تشعر بأنك مكدس في زاوية ما في مخزن قديم من مخازن أبي البائدة ككيس خيش الله وحده يعلم بمحتوياته ... مهمل ولا يمكن زحزحتك من مكانك ... ضوء الشمس لن ينبت ما بداخلك والظلمة لن تنعم عليك بنوم هانئ ... الجرذان السوداء لن تسليك ولن تنسيك همومك ... ستقضمك كثيراً وستمل منك أخيراً بعد أن تتبول عليك وتملئك من فضلاتها ...
ومثل الكيس المهمل نسيت لما أنت هنا ... أو لعلك لم تنسى وهذا غالباً ما يزيد من تعاستك ... ربما كنت في عربة ما في طريقك للحقول ثم تغيرت الخطة وانحرفت العربة نحو المخزن ونسيك أياً كان من يدفع العربة ... نسيك هناك للأيام لتطوى على عتبة الباب ... حيث تستلقي القطط وتنقب الدجاج ... وأنت من مكانك تراقب ... تراقب كيف تُمضي أيامها في اكتفاء ورضى ليس لديها مكان لتذهب إليه وليس لديها الرغبة للذهاب لأي مكان ...
أيمكنك الشعور بالغيرة منها؟ الحسد؟ أحقاً يسمح لك بهكذا مشاعر وأنت القابع في مكانك بلا حراك منذ سنين؟
تريد لوم أحدهم؟ ربما المجتمع أو حتى العالم بأسره ... كنت لتكون سعيداً لو أن أحدهم لم يخطط لأن يجعل مكانك خارج المخزن ... لو أنك بقيت حيث بدأت ... لم يحركك أحد من مكانك أو يخبرك بأن عليك أخذ خطوة أخرى وأخرى وأخيراً بأن عليك أن تكون في مكان يراه مناسباً لك ... وليس حيث تريد إن كان ولا بد أن تخرج وتتحرك على عربة رمادية مليئة بالنتوءات الإسمنتية بدولاب واحد ... ثم تُنسى في مخزن مظلم خانق ...
تحاول أن تتنفس لكن صدرك أو أياً كان ذاك الجزء منك لا يرتفع ولا ينخفض ... ثقيل وكسول ... والمكان لا يمنحك الكثير ... رائحة خانقة تزكم الأنوف ... رائحة التبن الجاف وذاك الرطب الذي جيء به حديثاً ... وتلك المبيدات الحشرية والأدوية التي وصفها البيطري المصري _أو لعله كان سوداني_ للخراف المريضة ... وأنت المريض الذي نسي البيطري أن يشخصك بالكآبة ... ويعطي ذاك الذي نسيك حقنة عضلية لك .. يحتاج جسمك بعدها لبضعة أسابيع قبل أن يصبح صالحاً للأكل ... لكن لحظة أنت لست خروف ولم تكن يوماً جزء من القطيع ... أنت ... أنت ربما طعام القطيع الذي لم يعد صالحاً للأكل ...
أحياناً تسمع هسيس الحية الصغيرة في آخر الليل تخبرك بأن عليك أن تصبر ... لكنك تخاف ... تخاف أن تصبر حتى تمتلئ بالأوبئة التي ستسقم أول كائنٍ يجرب حظه في الصباح عليك ... ثم لا يعد لك مكان لا هنا ولا هناك ...
أحيانا تزورك الماعز الفضولية ثم تقفز على رأسك لتصل لأعلى كومة التبن بجانبك لتأكل كما تشتهي من هناك ... وسراً تغذي غيرتك من روحها الحرة بأن تدعو أن تصادف قدمها ذيل الحية النائمة ... تريد أن تشاهدها تنتفخ بعد أن تموت وأن ينساها الجميع هنا كما نسوك ... لكنها رشيقة وذكية تعرف طريقها جيداً ليست مثلك ولن تكون يوماً مثلك وهذا يذكرك بكل ما أنت عليه الآن وبحالتك المزرية وكآبتك المتزايدة ... لكن من يدري قد يخونها ذكاؤها وتكثر من أكل الأكياس البلاستيكية وهي تتجول وتقفز من هنا إلى هناك ثم تتكدس الأكياس في أمعائها بعد أن تستعصي على عصاراتها الهضمية وتلاقي هي حتفها ... لن يضرك أن تعيش الماعز ... لكنه حتماً سيبهجك أن ترى نهايتها وتشعر بأنك آمن في مكانك ذكي ومنيع ضد تكدس الأكياس في أمعائك ... وأكيد منيع ضد العالم الخارجي البهيج ...
لكن الماعز تعرف جيداً القدر المناسب من الأكياس البلاستيكية لتأكله ... ووحدها الصيصان الصغيرة من تموت وتتيبس أمامك ... تدخل عليك في فورة حياتها ... واثقة بأنها قد تعلمت كل ما تحتاجه لتصمد خلال اليوم ... لكن احزر ماذا؟ لم يحذرها أحد من السم المنثور للجرذان على أرض المخزن أو لعله كان مبيد حشري ذاك الذي ابتلعته ... لكن هذا الموت ليس ما تريد أن تراه .. هذا الموت له رائحة تعلق في الجو تخنقك وتزيد من ثقلك ... تمدك بالكثير من الهلوسات ... الماعز تقفز من فوق السياج تصل لأبعد مما يمكن للدجاج أن تفعل وأبعد مما يمكن لك بوزنك الثقيل وهمومك الكبيرة أن تصل ... ثم تعود ... تعود دائماً ... سعيدة ومليئة بالحكايات ... والصيصان الصغيرة ... تموت ... أنت حتى لا تتذكر كم كانت أعمارها ... هل أنهت أسبوعاً منذ أن نقرت قشر بيضها أول مرة ... ماذا عن الحياة؟ أهي مكان يستحق أن تتكدس فيه؟ ... هل يسمح لك بإعادة ترتيب أفكارك؟ هل تجد الوقت لذلك؟  
هل تسمح لك كآبتك بأن تتجاوز أياً من ذلك؟ هل تسمح لك بأن تتجاهل الماعز .. الجرذان .. الحية والصيصان؟ هل يمكنك أن تركز على طنين الدبابير وبيوتها الجافة في سقف المخزن؟ هل يمنحك ذلك المزيد من الكآبة؟ تراقبها تبني بيوتها بالطين اللزج ... تضع بيوضها ... تكبر الأخيرة وتصبح دبابير بالغة لها حاجات ملحة في الخارج ... ويبقى البيت خالياً يزين سقف المخزن كبيت رعب في فيلم قديم يخيف الصغار ... وعن بيت الدبور أتحدث .. عيونهم دائما معلقة في السقف تترقب أن يهجم عليهم دبور أحمر نحيل الخصر من أحد تلك البيوت المهجورة ... ولا وقت كافي لاستكشاف المكان والمراقبة ... وتَذَكُرِكَ ...
هل ستنتهي كآبتك؟ ربما فقط عندما تفرغ محتوياتك ... وهذا يذكرك بمحتوياتك .. ماذا كانت؟ تحاول أن تتذكر ... تحاول جاهداً أن تتذكر من أنت ... من تكون ... هل وجدت الجواب؟ الآن وقد عرفت الجواب ... أهذا حقاً مكانك؟
ها أنت تعود لنقطة البداية بمزيدٍ من الكآبة ...
والآن بت تعرفها جيداً ...

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الحنين وأشياء أخرى في رسالة

عن بغلة القبور

الرابط العجيب بين نشر إيران للتشيع، وغسيل إسرائيل الوردي!