ماتت جدتي

ماتت جدتي






قبل أسبوعين ماتت جدتي ...

لم أكن يوما أكيدة من مشاعري تجاه جدتي ... ربما تخيلت موتها عدة مرات في الماضي لكني لست متأكدة إن كنت تخيلت كيف ستكون الحياة بعد ذلك ... كيف سيكون كل شيء بعد ان ترحل جدتي التي كانت حياتنا تدار بطريقة خفية حول ما تريد ... مشاعري تجاه الكثيرين وعلاقات عائلتنا ببعضها حددتها جدتي بطريقة أو بأخرى ...
ويبقى السؤال الآن وقد رحلت كيف ستكون حياتنا بعدها وأرجو أن لا نكون قد عشنا كل ذلك الوقت مخدوعين بما صادف أنا عرفناه عنها قبل رحيلها ثم لا تلبث حياتنا أن تستمر كما كانت دائما وأبدا ..

لم اواجه مشاعري الحقيقة تجاهها من قبل لكني أشتاق الآن لها ... وأحيانا أبكي في جوف الليل على فراقها أو ربما لأكون أكثر صدقاً على حقيقة أنها أصبحت تحت التراب في عالم المختلف ...

زرناها في اليوم السابق لوفاتها ... وتوفيت في فجر اليوم التالي ... كانت حالتها تزداد سوءاً كل يوم منذ بضعة أشهر أو ربما منذ بداية العام ثم تراكم عمرها المديد فوقها وتركها نحيلة جداً وإن كانت دائما نحيلة إلا أن آخر بضعة مرات رأيتها فيها كانت كما لو أنها رقعة من الجلد الممدد على عجالة _ رغم كل الوقت الذي استغرقته في الحياة _ على عظامها القديمة نفسها.

بكيت عليها كما لم أفعل من قبل ليس في اللحظة التي وقعت عيني عليها وهي شبه ممدة في مكانها المعتاد تتنفس بصعوبة مع فمها وقد سحبت عمتي الكبرى غطاء رأس جدتي الأسود وغطت فمها لعله يقلل من نشوفته ... لكني بكيت عندما زارتها جارتها وبنات أختها ... بكيت عندما سألت العجوز:
 " قد رجع محمد من السفر؟ "
بكيت عندما سألت: " بلغتوا فاطمة؟" 

بكيت عندما بكت عمتي لأنها تعلم كما يعلم الجميع أن هذه الأسئلة تعني فقط ان العجوز الحكيمة تعرف الموت عندما تراه على شفير أحدهم وتسأل عندما يكون أقرب له منا جميعاً ..

وبكيت عندما رأيت عيون بنات أختها تلمع من وسط هالاتها السوداء بدموع جاءت بها حقيقة الموت المتربصة في الغرفة ... لم يكن قد مضى على موت شيخهم أكثر من شهر ... وتردد صوت أبنته المتهدج بيننا وبعثر المزيد من دموعنا وهي تقول ... "بلاش الأنانية ... نبغاهم معنا وحنا نروح ونجي وتاركينهم في نفس المكان وهم قد عافوا الحياة ... " 

قبل ان يموت والدها وصله خبر موت خال أمي ولأن الحياة أرخص مما نعتقد كان يكرر "هنيه ... هنيه"

أيقظتنا أمي للفجر ... كانت تردد أن جدتي قد تكون ماتت ... لم أصدقها ... أحلام دائما تقول أننا سنعيش ونموت وستبقى جدتي هنا بعدنا عمراً مديداً ... وأمي تقول أنها ماتت ... وأبي يقول "خلاص خلاص"

والخبر كان كما قالت لكن أبي خانته كل كلمة سمعها في حياته وبقيت " خلاص " 

عمتي انهارت! ... حاول ضغطها أن يصل بها إلى السماء لكن الجميع تشبث بها ... أبقوها على الأرض ليوم آخر ...
وأبي فقد السبب الذي عاش من أجله ما يقارب الستين عاما ... فقد أمه ... لا مزيد من " تبغون شي؟ بروح لأمي" كل يوم ... وكل يوم ...

كنا قد امتثلنا لأوامر أمي وأخذنا نجهز البيت للمعزين بفرض أنها محقة عندما تأكد الخبر... لم أعرف كيف يفترض بمشاعري أن تكون لكني لاحقاً أدركت أن دقيقة واحدة من الخلوة كانت لتجعلني أغرق في دموعي ..

كانت أنفاسي تثقل ولوني يبهت وفراغ لا يفترض به أن يكون موجودا يتسع في صدري .. ويتحجر شيء ما في حلقي ويتكدس ضباب في عيوني ... 

ذهبت أمي للمغسلة مع جدتي وتقرر أن يستقبل عماتي المعزين في بيتها وأن يستقبل أبي الرجال في بيتنا ... وأنا قررت أن أنام ... أن أبكي قليلا ثم أنام ...

رأيت أبي على عجالة لأول مرة ذلك اليوم عندما صعد يبدل ثيابه ليصلي للمغرب ... "عظم الله أجرك" ثم قبلة على رأسه في الظلام .. عانقني واستباحت الدموع عيوننا ... توجه لباب غرفته توقف وقال " أمس مثل ذيه الوقت كنت أبوس رجولها "

عرفته دائما يبكي من أجل أمه ... واليوم يبكي عليها ...

كانت أضواء المنزل خافته  عندما بدل ثيابه وتوجه لقسم الضيوف ... فأضاءت مريم بعض الأضواء ولم أكن قد رأيت وجه أبي جيدا حتى عاد لوهلة .. فتح الباب ووقف تحت الضوء ...

وجهه كان كالحا جدا ... وجه رجل لن يرى أمه ثانية ... قصرت قامته ... وتهالك جسده وتقوس منكباه ...

وكرهت مريم ...

أخذت شماغ أخي وشماغ أبي حذائه وثوبه التي ارتداها أثناء دفن جدتي لأغسلها ... وعلى الغسالة تحت الماء الدافق ومن بين يدي أنسل التراب العالق بالشماغ ... تراب كان يعود لقبر جدتي ... علق بهم من عالم الموتى ... والآن يجري سريعا من بين أصابعي يذكرني بأشياء لا أعرفها ويسيل دموعاً لا أدري لأي شيء تسيل .. تراب من بيت جدتي الجديد ..

أسوء جزء في الحزن هو الوقت الذي يتعاظم فيه ... لحظة بدايته قد تكون أسهل من إدراكه لأول مرة لأنه سيكبر ويكبر ويثقل ويثقل ولا تدري متى سيتوقف ... متى سيصغر ويتضعضع ... أدراك عظمته دائما موجودة تغيب إدراك أنه سيأتي وقت يزول فيه ويرحل ... إدراك الحزن يزيد الحزن حزناً ...

بات أبي تلك الليلة مع عمتيَ في بيت أمهم ... حيث ترقد ثيابها وتتخبأ شيالها وتفوح رائحتها من الزوايا القديمة ذاتها ... يجهش بالبكاء كما ينبغي لرجل افنى عمره لأمه .. 
وباتت أمي أيضاً معهم تلك الليلة ... أسأل الله أن لا يبلغها خبر سيء فيمن تحب فيبدوا أنها باتت مؤخراً تقضي وقتاً طويلاً تواسي تعزي وتتلقى العزاء هي نفسها ..

مرت أيام العزاء اتناوب فيها انا وأخواتي على بيت جدتي وأسمع كل يوم قصصا مهن عن أبي وبكائه لكني لم أره يبكي بنفسي ...
عمتي الصغرى تنتظر مواعيد صلاة أمها وتقول " هذا وقت صلاتها" والأخرى تصارع ضغطها ودموعها وحقيقة أن الأيام التي كانت تقضيها مع أمها بالتناوب مع أختها جاءت نهايتها ... 

وأحلام التي قضت وقت اطول منا مع أمي في العزاء تعود كل يوم تحكي لنا قصصا عن جدتي ... ليست مثل تلك التي تحكيها جدتي لأمي لنا عن عمرها الطويل ... ولا تلك التي تحكيها عمتي عن خبز أمها الفريد ... بل قصص يحكيها الجميع عن صلاتها صيامها قيامها الليل وصدقاتها وخيرها والكثير ... وعن كل سبب ابقى أصبعها التي انتصبت في أخر لحظاتها للتشهد شامخة وهم يغسلونها ... عن كل سبب يجعلنا نرتاح لأنها بخير ... في الجنة ... وربي الكريم أسأله أن يراضى عنها وعنا من بعدها.

انا على يقين أنا القرية تغيرت بعد موت جدتي ... جدتي التي كانت هنا دائما قبل الجميع وبعدهم ... رأيت ذلك في وجه جارتها في صمتها في شرودها في صحتها الغائبة ... 

لا أعرف كم مرة بكيت وأنا أكتب حكايتي هذه ... ولا كم مرة بكيت وأنا أحاول أن أدرك أننا لن نزورها مجددا في العيد .. وأن بيتها الذي سيطل دائماً وأبدا في وجوهنا كل يوم لن تضيئه من الآن فصاعدا ... ربما سيحدث أن يجتمع بناتها فيه لذكرها لكنها لن تكون هناك ...

في أيام العزاء جلست على المقعد الذي كانت تتمدد دائما فيه ... بدى غريبا جدا... خاليا من الوسائد البطانيات ومن جسد جدتي .... وتلك البقعة من مجلس الرجال التي كانت تجلس فيها ترتجف من الكبر لتستقبل ضيوفها الكثيرين كان مكدسا بالمعزيات ... يجلسون هنا ساعات وساعات لا يدرون أنهم يجلسون في مكان جدتي وينظرون في عيوننا وعيوننا تنظر لماضي كانت فيه تجلس هناك ...

في اليوم السابق لزيارتها قبلناها على رأسها كما نفعل دائما قبل أن نخرج ... كنت انوي تقبيل يديها لكنها كانت ضعيفة جدا فاكتفيت بقبلة على جبينها ورأسها ... كانت طوال الوقت تبدو في سبات وهي تلهث لكن عندما قبلتها فتحت عينيها ونظرت في عيني ... لم تنس احدا قط ... لم تخذلها ذاكرتها حتى في آخر لحظاتها ... كانت تعرف من أكون من تكون مريم دلال وأحلام ... وحتى بنات الجيران وخالتهم العجوز ... نظرت في عيوننا جميعا مع كل قبلة ... 

قالت لي مريم أن عمتي أخبرتهم بأن جدتي لم تبعد عينيها لحظة واحدة عنا بعد أن ودعناها ونحن في طريقنا للخارج حتى غبنا تماما عن نظرها ... أكان ذلك وداعاً؟

اشتاق لها وأنا لا اعرفها حقاً ... لم نكن قريبين منها تماماً ويبقى ذلك لغزا لا أظنني سأفهمه أبداً ... ليس في هذه الحياة ... فألا يبدوا هذا الشوق مخيفاً جداً ... 

مرت أيام العزاء ... وعاد لون ابي وصوته ثم استعاد طوله وغنائه ... ثم عاد أبي ... وبقدر ما يسعدني أنه ومن بين كل ركام الذكريات ودفق الدموع وجدت الحياة سبيلها إليه من جديد .. إلا أنني لا أقدر على منع نفسي من التفكير في قوتنا نحن البشر او ربما صلابتنا وقسوتنا ... قالت العجوز الحكيمة قبل وفاة جدتي:
" مثل الغنم اللي ياكلها الذيب وترعى ..."

أتسأل إذا احتاج أبي لأسبوع ليستعيد نفسه بعد موت أمه كم سيحتاج أهلي من الوقت ليعاودوا حياتهم بعد موتي ... ثلاثة ايام ... ربما يومان ... اليوم الاول فقط؟ ... من يدري لعلي خفيفة جداً في الذاكرات ...

اليوم الماضي كنا نجلس على العشاء وتناول أبي الخبز وشيء ما بخصوصه ذكره بأمه وبصوت جهوري قال "
الله يرحمش يا أمي" ..
تذكر هذا يجعلني أبكي مجددا ... الموت يرعى كثيرا في الارجاء مؤخرا ... يلتهم العجائز والشيوخ ... ويبقنا نحن الثمار المبعثرة الضائعة على طرق الحياة السريعة ... لأي شيء أتسال ... 

الحياة لن تعود أبدا كما كانت .. على الأقل بالنسبة لي ..

رحمك الله يا جدتي ... رحمك الله ورحم ذكرياتك القليلة التي تركتها معنا ....

واطال الله في عمر جدتي منيرة وجدي سعيد ... فأنا أعلم أنني أحبهم وأشتاق إليهم حتى وأنا معهم ..

********************

أدعو لجدتي :

اللهم إن مهرة بنت لاحق في ذمتك وحبل جوارك، فَقِهِا من فتنة القبر وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء والحق، اللهم اغفر لها وارحمها، فإنك أنت الغفور الرحيم.

اللهم اغفر لها وارحمها واعف عنها وعافها وأكرم نزلها ووسع مدخلها، واغسلها بماء وثلج وبَرَد، ونَقِّهِا من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدلها داراً خيراً من دارها، وأهلاً خيراً من أهلها، وقِهِا فتنة القبر وعذاب النار.

اللهم اغفر لحينا وميتنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، وشاهدنا وغائبنا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفَّهُ على الإيمان، اللهم لا تحرمنا أجرها ولا تضلنا بعدها.

اللهم أنت ربها وأنت خلقتها، وأنت رزقتها وأنت هديتها للإسلام، وأنت قبضت روحها، وأنت أعلم بسرها وعلانيتها، فاغفر لها ذنبها.

اللهم إنها أمتك وابنة عبدك وابنة أمتك كانت تشهد أن لا إله إلا أنت، وأن محمداً عبدك ورسولك، وأنت أعلم بها، اللهم إن كانت محسنة فزد في إحسانها، وإن كانت مسيئة فتجاوز عنها سيئاتها، اللهم لا تحرمنا أجرها ولا تفتنا بعدها.

********************

هنا كتبت مرة عن جدتي :

https://instagram.com/p/l0caMCpZ0-/

وهنا كتبت عنها مجددا:
https://instagram.com/p/udjraKJZ3g/


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الحنين وأشياء أخرى في رسالة

عن بغلة القبور

الرابط العجيب بين نشر إيران للتشيع، وغسيل إسرائيل الوردي!