الاثنين: سحر التفاصيل


أثناء الفصل الدراسي الماضي وقعت على مشروع  تكوين الثقافي الأدبي المتخصّص في الكتابة الإبداعية, وصلت له عن طريق مُدوِنتي المفضلة على الإطلاق هيفاء القحطاني, وهناك وجدت موضعا من ترجمتها بعنوان "خمسة أيام لبناء عاداتكم الإبداعية" وقررت أنني سأحظى بهذه الخمسة أيام غير أن الدراسة طحنتني جيداً وقتها, ثم توقف الموقع للصيانة والتجديد, وعاد والحمد لله عوداً حميداً.

كان يفترض بي البدء اليوم بأول الأيام الخمسة, غير أنني انشغلت بإنجاز ترجمة لإحدى موادي الدراسية, وحالما انتهيت كان يوم الإثنين قد غادرنا, لكني سأفترض أنني أنجزت الكتابة نهار الأثنين وأنني أرفع التدوينة على مدونتي نهار الأثنين أيضاً.

رابط المقال: http://www.takweeen.com/?p=5458

أسمحوا لي أن أنوه على أنني أشتركت بخاطرة قصيرة في مسابقة مهرجان همسة الدولي للآداب والفنون 2015 بعنوان "الحضيض", يشرفني أن تزوروا صفحة الخاطرة وتتركوا لي تعليقاً عليها تعبرون فيه عن رأيكم صراحة بها, وإذا ما نالت إعجابكم فأكرموني بالإعجاب بها عبر أيقونة الإعجاب وسساعدوني في نشرها.

رابط المشاركة: http://hamsamagazine.com/?p=15643



والآن إليكم أول كتاباتي لهذه السلسلة:






" القبو "


اليوم يفترض بي أن أكون في قبو في منزل مسكون أو في مدفن في الليل, لا أعلم حقاً حتى اللحظة أين أنا, أنا أسمع قرع أقدام, وأخاف أن أسأل " من هناك" , والخوف الحقيقي ليس إلا من رد غير متوقع, فألتزم الصمت. لا أعلم لكم من الوقت أجلس هنا, أنتظر, أنتظر أحدهم, لعلي كسرت قدمي أو لويت كاحلي, وانتهى بي الأمر مختبئة هنا, في هذا القبو المظلم.

رائحة العفونة والرطوبة والأتربة المتكدسة تملأ أنفي, يدي لزجة من أثر العرق الذي لا يكف جسدي عن إفرازه, التراب يلتصق بهما ويخلف ملمساً مزعجاً, مهما مسحت يدي بثيابي وجففت عرقها لا يزول هذا الملمس, ملمس التراب وقد غطى اليدين وغلفهما بالخشونة والجفاف. الحر خانق ووجهي بدأ يحكني, أشعر بطبقة دهنية تغطيه, تتجمع على جبيني أنفي وذقني, لا أريد أن ألمس وجهي بكف يدي المتسخ, فأمسحه بظهرها حتى أفسح مجالاً للمزيد من الدهون بالتكدس على بشرتي.

المنزل قديم ومتهالك, وأظنه نسي متى آخر مرة سكنه فيها بشر, ولا بد أن القبو مثله, في أعلى الحائط على يميني كوة صغيرة, حشرت فيها أكياس محشوة بشيء ما, فحجبت ضوء النهار وكل ما سواه إلا من بضعة خيوط نحيلة من النور والتراب الأليف. كل شيء هنا يسمح له بالتربع والتبختر عليه, كل شيء مذعن لسطوته وكثرته, حتى أنا استسلمت أخيراً له, ولرائحته التي تخللت في كل خلايا رأسي وأورثتني صداعاً لا ينقطع.

القبو له مدخل وحيد تندلق منه بضع درجات, كان بابه مفتوح فدلفت منه وحشرت نفسي حيث أنا الآن, بين طاولة مقلوبة وسرير حديدي كدست عليه بطانيات صناديق كرتونية وأشياء أخرى, لا يمكنني التنبؤ بما قد يتسلل إلي من تحت السرير يقرصني أو يتلبسني, لكني لا أملك الكثير من الخيارات لأماكن جلوس أكثر رفاهية, ليس في قبو كهذا.

يمكن للضوء القادم من مدخل المنزل البعيد أن يصل لباب القبو شاحبا ومتعباً ولا يفيد إلا لزرع مزيد من الخوف بداخلي, في كل مرة ألتفت إلى الباب أرى خيالاً أسوداً يختفي بسرعة عن يمين الباب أو يساره, الباب يستلزم المراقبة المستمرة, لكن الدُرج الكبير على يساري يستلزم نفس الأمر, أبوابه كبيرة وأحدها مخلوع, وكأنه بوابة للشياطين, لتأتي وتحتلني, أو ربما تخطفني على حين غفلة مني, كل ما راقبت أبوابه المعلقة به زدت يقيناً بأنها تتحرك.

أسمع قرع الأقدام مجددا, لكنه هذه المرة أكثر جنوناً, وكأن أحدهم يصعد السلالم الحجرية وينزلها, لعله ثقيل الوزن وخفيف العقل, أنا خائفة؟ خائفة حتى الموت, لا أنفك أكرر كل ما أحفظه من أذكار وأدعية, الكرسي الفاتحة, الإخلاص الناس, الفلق والفاتحة مجددا, " أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق" ثم رفرفة أجنحة, يمكنني سماعها بوضوح, وكأنها معي في نفس المكان, أتكون خفاش, حمامة أم جني " بسم الله اللذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء" هذا كفيل بحمايتي من صاحب الأجنحة وأجنحته, لكني أفقد إيماني شيء فشيء, الخوف يسيطر علي تماماً والظلمة تغلفني, والنهار لن ينتظرني.

رائحة أكلة شعبية مألوفة بدأت تنتشر, تشد قبضتها على ما بقي في من منطق, من يطبخ الغداء, من يسخن السمن ومن سيأكل, إن كنت شعرت بالجوع سابقاً فأنا الآن متخمة بالخوف والذعر. أسمع خربشة قريبة مني, هل بدؤوا في التجمع عندي, شيء ما يسحب على الأرض في الغرفة أعلى القبو, لعلهم يتجهزون للطعام, ولا أدري لأي شيء دخلت إلى هنا؟

وكأن الظلمة لا تكفي لتغليف الأشياء, وكأن إطباق عيني كفيل بجعلها تختفي, لكن أي منها لا ينفع, لا الظلمة تبتلع الأشياء ولا العيون المغمضة تخفيها, ليس ولديك أذنين تلتقطان الأصوات, تبحثان عن الأنفاس وتقربان منك ذاك المواء اللذي لا يشبه أي مواء سمعته في حياتي, وصوت تلك الأنفاس اللاهثة كل ما خبت أعادتها أذني وحشرتها في رأسي حتى لا أنساها, لعلي هالكة, لعلها النهاية.

المنزل يطقطق ويصر على ما بقي له من أسنان, والشمس تلوذ بالفرار, وأنا غير مرحب بي في المنزل, الرائح الآن مختلفة, رائحة دخان, إنها الحرب علي وعلى كل شعرة واقفة في جسمي, وكلهم وقوف, لا بد أنه الفضول اللذي ساقني إلى هنا, لابد أنها رغبة الاستعمار التي سحبتني إلى مهلكي, لكن السكان الأصليين أم لعلهم المستعمرون الأوائل يرفضون وجودي في مستعمرتهم هذه. قرع طبول هي أقرب للعرس منها للحرب, وزغاريد خافتة, سرب من الهمهمات الملعونة, لا يمكنك فهم أي منها, كلها تتحدث عني, إنه عرسي, أم لعله مأتمي.

خفق قلبي بشدة كثيراً هذا اليوم وبعد كل نوبة رعب كان يتباطأ حتى يهدأ, ليكرر الأمر مجدداً, لكنه كما أذكر لم يتباطأ آخر مرة بل توقف, توقف عندما سمعت أحدهم ينادي باسمي, وفوت علي اجتماعهم الأول والأخير بي.


____________

* الصورة أعلاه من تصويري





تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الحنين وأشياء أخرى في رسالة

عن بغلة القبور

الرابط العجيب بين نشر إيران للتشيع، وغسيل إسرائيل الوردي!