العزاء في زمن الكورونا





قبل أربعة أسابيع تقريبًا كان يمكنني تلخيصه في "لا مساس" كما قال أبي وهو عائد من المقبرة، خائف وعيونه مغرورقة بالدموع، على حد وصف أختي.

توفي جدي "علي" عم أمي (رحمه الله) في ذلك الوقت، أي في بداية فترة الحجر الصحي وحظر التجول تقريبًا، وكان أكثر شيء يشغل بالي كيف يمكن أن يدفن رجل فاضل مثله بهدوء، أين الأربعون أو المائة الذين سيشهدون له؟ كيف يمكن أن يورى التراب دون أن يحضر دفنه محبوه الكثر الذين كانوا يزورونه كل يوم؟

كان جدي علي إمام مسجد المِعيَن الصغير القريب من بيته، وكان أبي يكرر دائمًا بأنه لم ينقطع عن زيارة جدتي –أمه- في حياتها رحمهم الله جميعًا، وفي كل مرة نزوره كان يمسك بمصحف بين يديه ويبقي إصبعه على موضع الآية التي توقف عندها بسببنا، وبين الفينة والأخرى كان يلقي نظرة على إصبعه ليتأكد أنها لم تتزحزح، كان يختم القرآن كل ثلاثة أيام، وكان يدعوا الله حسن الخاتمة في كل لقاء به، وفي ليلة الأثنين توافه الله نائمًا في بيته على سريره.

وفي العزاء بقيت الكفوف في الحجور، والوجوه قليلة جدًا ومألوفة جدًا، ومن فوق رأسي روت حفيدته قصة موته، وأبقيت الدموع في حدود محجري، وكانت وصيته بسيطة وقصيرة لا تشبه حياته الطويلة الحافلة، وإن كانت تشبهه كثيرًا: "أدعوا لي".

وفي الخارج جلس رجال العائلة في حلقة صغيرة، صغيرة جدًا على رجل كبير، كبير جدًا مثله، وتساءلت ماذا يعني أن تموت بهدوء؟ كم يحتاج أفراد عائلته للناس الآن؟ أهله الذين اعتنوا به في أيامه الأخيرة واعتادوا لسنوات حضور الزوار كل يوم، كيف يشعرون الآن في زمن الحجر الصحي، وهم يمرون علينا بالمعقمات ويردون على الاتصالات الكثيرة ويتذكرون ليلته الأخيرة بحرقة كلما سئلوا عنها؟ البيت الذي لن يهدئ فقط في الليل بل طوال اليوم، وكل يوم، كم يحتاج الآن للناس؟ الزوار الذين لم يأتوا للعزاء ولن يأتوا لزيارته مجددًا، كم يعني غيابهم للجميع؟

طمأنتني أمي بأن الحاضرين لدفنه تجاوزوا المائة، مائة من الرجال المكممين المتفرقين، الذين أخاف تفرقهم وتباعدهم وامتناعهم عن المصافحة أبي، حتى تذكر قوله تعالى: )قَالَ فَٱذۡهَبۡ فَإِنَّ لَكَ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ(.

وفي يوم الخميس مات والد زوجة خالي (رحمه الله)، وتسلل العزاء من البيت في الجبل إلى البيت أسفل منه، بهدوء مثل قط أسود في آخر الليل يتخفى من بومة صغيرة تكبر شيءً فشيءً على عمود الإنارة. 

هذه المرة كان العزاء مقدرًا له أن يكون في قارة أخرى في حدود بعيدة ومترامية، لكن الكورونا أقفل الحدود قبل موعده، واضطرت خالتي (زوجة خالي) أن تتخذ قرارًا صعبًا، إما البقاء مع أبنائها، أو الذهاب لرؤية –وداع- والدها في رحلة ليس لها عودة منها إلى أن يشاء الله، وكان قرارها البقاء، والحدود التي أغلقت بصرامة في وجه الناس كانت متساهلة للغاية مع الموت والعزاءات الهادئة.

وقبل أيام قرأت رسالة لفتاة تطلب الدعاء لجدتها لأن كورونا الذي أقفل الحدود وكمم الوجوه، زاد من وحدة أهل القبور أكثر مما يمكن لنا أن نتخيل، والمائة الذين حضروا دفن جدي علي لم يحضر ولا حتى ثلثهم لدفنها، كان مأتمًا خاليًا من الناس.

العزاء في زمن الكورونا كابوس، كابوس رهيب انبعث من بين خطايا الغافلين، ليصبح واقعًا مخزيًا لخُيلائنا نحن البشر الفانين لا محالة، لا يمكنني حتى مقارنة خوفي من الأيدي الغريبة التي ستغسل جسدي العاري على الطاولة المعدنية الباردة، بالخوف من مراسم دفن هادئة، لن يحضرها إلا أبي، وأخي، والأموات من تحت الثرى.

ماذا بقي لنا إن كنا لا نستطيع الوقوف معًا في مقبرة وعزاء؟

الدعاء.

لو لم يكن لنا حتى أن ندعو إلى ماذا كان سيصير حالنا؟ كيف كنّا لنواجه هذا الوباء؟ وهذه الفترة الصعبة التي تعدُ فيها أمي الأيام منذ آخر لقاء لها بوالديها اللذين يسكنان في الجزء الأعلى من القرية؟ بعيدون عن أحبتنا، غائبون في أوقات الحزن والفراق، قريبون جدًا من السماء لكننا نصد عنها بمزيد من الغرور الزائف.

لم يعد هناك ما يقال، لم يبقى إلا الدعاء، كل أنواع الدعاء، الدعاء للأموات الراحلين في صمت، النائمين الآن في وحدة داخل لحودهم، وللوباء أن ينجلي، وللوحدة والغربة والفقر التي زاد منها الوباء أن تكون بردًا وسلامًا على الجميع.

اللهم أرحم أمواتنا وأموات المسلمين أجمعين، وتجاوز عن سيئاتهم واعفو عنهم واغفر لهم، وارحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه، واجمعنا بهم في جنتك يا أرحم الراحمين، وتب علينا ولا تغضب علينا وارفع عنا البلاء يا رب العالمين.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الحنين وأشياء أخرى في رسالة

عن بغلة القبور

الرابط العجيب بين نشر إيران للتشيع، وغسيل إسرائيل الوردي!