هي أشياء لا تشترى




انفجر تويتر أخيرًا بنداءات التطبيع مع إسرائيل والتبرؤ من فلسطين وأهلها، والسبب حرب السباب والشتام الدائرة منذ سنين بين المغيبين من الفلسطينيين والسعوديين. لا يهم حقًا أي طرف بدأ هذه الحرب الوضيعة، فالعقلاء يعرفون جيدًا الوحيد الذي له مصلحة منها، الوحيد الذي سيبتلع الأرض والثروات ويبني المزيد من المستعمرات في هناء بينما العالم غارق في سب الحكومات والشعوب وتخوينها وتبادل الاتهامات لإخراس الضمائر المتهدلة على الصدور الخالية من المروءة.

حجة المنادين بالتطبيع الوحيدة هي مصلحة المنطقة وازدهارها وتحقيق السلام لها، ولا يمكنني إلا أن أتساءل كيف لسارق ومغتصب لا تكف يداه عن الانغماس في الدماء وإذكاء الحروب، أن يحقق لمنطقة يزعزها منذ احتل ما احتل منها أي من هذا؟! هل ستغدق إسرائيل على الحكومات والشعوب العربية الفقيرة بالمال لتحقق ازدهارًا للمنطقة، إذًا فالفلسطينيون الذين هدمت بيوتهم وشردتهم وهجرتهم إلى أصقاع الأرض أولى بهذا المال الذي خرج مباشرة من أرضهم. أم ستتدخل وتوقف الحرب في سوريا بأن تقنع حليفتها إيران، التي لا تكف عن الادعاء بأنها عدوتها اللدودة، بأن تسحب مليشياتها وضباطها وعساكرها من أراضي سوريا والعراق بالمرة؛ أم ستمنح روسيا المزيد من الأراضي السورية الشهية لتوقف طائراتها عن قصف المدنيين العزل. وماذا عن الحرب في اليمين؟ هل ستطيعها أيران مرة أخرى وتوقف دعمها للحوثي؟ هل حقًا تستطيع أن تحقق للمنطقة ازدهارًا وسلامًا أم أنها ستشبع بطونًا بحد ذاتها فيما تدعس على البقية؟

كيف نطبع ونتصالح مع قاتل أطفال مغتصب أراضي؟ وكيف سيحل الازدهار وهو يهدم بيتًا كاملًا لأن فردًا واحدًا منه قاوم جنود الاحتلال؟ وكيف سيحل السلام وقد أسقط صواريخه عمدًا وقت خروج الأطفال من المدارس؟ أليست هذه إبادة متعمدة لشعب بعينه؟! وعندما لا يقتل الأطفال يستجوبهم ويسجنهم خلف القضبان.

ليس مثلنا إلا كمثل الثيران في قصة "أُكِلت يوم أكل الثور الأبيض". لا الثور الأبيض سلم منهم ولا الغابة ازدهرت ونمت، وبطن الأسد وحده من شبعت. متى سيدرك العرب أن فرقتنا وحربنا العقيمة الشوهاء هذه لن تضر سوانا، فذاك الذي ذاق مرةً طعم أراضينا سيعود للمزيد. والقمّامات إذا اجتمعت على جيفة تتقاسمها بنهم حتى لا تبقي منها ولا تذر.

كنت أتساءل كيف استطاعت قوقل أن تمرر اسم إسرائيل على كل أراضي فلسطين في خرائطها! كيف نجت بتجاوز جليل كهذا؟ أين كنا منها عندما فعلت؟ ولماذا مازلنا صامتين؟ والآن عرفت أننا غارقين في تبادل الاتهامات واكتشاف أي الفريقين أكثر بذاءة وأسلط لسانًا، ومن تحت أنوفنا تسلب حقوقنا. كان يدهشني كيف أن الدول اللي ذاقت طعم سرقة أراضيها مثل كوريا الجنوبية واليابان يمكن أن تضع يدها في يد سارق آخر، ثم رأيت دولنا تتسابق للفعل ذاته. وأذهلني جهل المشاهير والمؤثرين من كل دول العالم عندما يزورون الأراضي المحتلة ويسمونها بغير اسمها، ثم عرفت أن الجاهل الحقيقي هو شبابنا الذين ببساطة اصبحوا قادرين على التخلي عن قضية كل المسلمين والتنصل منها لأن سفيهًا سب حكومتهم، والأدهى والأمر أن عقولهم غسلت بماء عكر فصاروا يؤمنون بأن الأرض لليهود لأنهم نسل إبراهيم، ولكن إبراهيم عليه السلام مثل كل الرسل والأنبياء كان حنيفًا مسلمًا:

"دين الأنبياء كلهم هو الإسلام، وإن اختلفت الشرائع، وقد أفاض القرآن البيان في ذلك، كقوله تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا} [آل عمران/67]، وقوله عن يوسف: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف/101]، وقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران/19] ...
... ثم كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يؤمنون بجميع الكتب المنزلة وبجميع المرسلين هم الذين يمثلون الإسلام، وهم أولى الناس بإبراهيم: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران/68]، وبناء على ذلك ينطبق على هذه الأمة في تأكيد ملكيتها للأرض: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء/105]، فوجود المسلمين فيها هو حق شرعي أبلج.
وكان من حكمة الله تعالى أن أراد تأكيد هذا الحق للمسلمين في فلسطين أثناء رحلة الإسراء والمعراج، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يعرج به من مكة إلى السماء مباشرة، وإنما أسري به من مكة إلى القدس، ليصلى هناك بإخوانه الأنبياء إمامًا، فكانت صلاته بهم في المسجد الأقصى إيذانًا بانتقال الزعامة الدينية لطائفة استحقت السيادة لما تخلف اليهود عن مقومات استحقاقها، وقد كانت هذه الحقيقة مستقرة في حس الصحابة رضي الله عنهم، فنهضوا لاستلام مفاتيح القدس أيام الفاروق عمر ...
وأما فيما يختص بالمسجد الأقصى الذي يريد اليهود هدمه وإقامة الهيكل مكانه، فقد بناه إبراهيم عليه السلام الذي لم يكن يهوديًا ولا نصرانيًا ولكن حنيفًا مسلمًا، فبالتالي ينسحب عليه كل ما ذكرناه آنفًا من أنهم ليسوا ورثة إبراهيم عليه السلام، وإنما ورثته هم أهل الإسلام أتباع الأنبياء." [1]

إذًا بدفاعنا عن القضية الفلسطينية نحن ببساطة ندافع عن حقنا نحن المسلمين في الأقصى والصلاة فيه والسكن بجواره إن شئنا. نحن حين ندافع عن القضية ندافع عن الحق ونقف في وجه الظلم وهذا أبسط ما يمكن أن يفعله الأنسان المجرد من التبعات والأهواء، أن يقف في وجه الظلم ويندد به. وأي ظلم أكبر من هدر حيوات ناس واغتصاب أراضيهم ثم شيطنتهم. نحن لا ندافع عن السفهاء الذين انغمسوا في السباب والقذف، فهؤلاء مشغولون بإذكاء فتنة عظيمة بين المسلمين سريعًا ما ستلتهمهم، فها هو المتحدث باسم نيتنياهو على تويتر يدعو الفلسطينيين بالزعران والبلطجية والوحوش بمن فيهم أطفالهم، وأنهم دنسو الأقصى وباحته التي يحترمها اليهود، على أثر المقطع المثير للجدل والريبة، المصور لفلسطينيين يسبون سعوديًا ويطردونه، وللعالم العربي وغيره أن يتفرج ويصدق ويعمم مثل هذه الممارسات على كلا الطرفين، فيما تبقي الدولة الغاصبة صور مواطنيها وهم يقتحمون باحات المسجد الأقصى تحت الحراسة، وعساكرها وهم يمنعون الشباب من صلاة الجمعة، وحفرياتها تحت المسجد الأقصى، بعيدًا عن أنظار العالم. والآن من الخاسر الأكبر الذي صار في نظر العالم بما فيه العربي: لا يستحق التعاطف ولا المساعدة ولا حتى المسجد الذي بين يديه؟!

فيما يلتزم العقلاء من الطرفين الصمت في بروجهم العاجية يتفرجون على السفهاء يجرّون البقية إلى هذه المهزلة التي ستفقدنا كل شيء بدءًا بكرامتنا وانتهاءً بأراضينا، يعمل الأعداء ليل نهار على شرعنة سرقاتهم وغض الطرف عن قتلهم المستمر للأبرياء لينالوا تعاطف العالم معهم. ولو فتح أحد العقلاء فمه لوجدت من يتهمه بالخيانة لأن دورهم يفترض أن لا يتعدى الرد على السباب بالسباب، وإعادة تدوير مقاطع السفهاء وأفكارهم القمامية، وإقناع الناس بأن الطرف الثاني خائن وأن الكلب أوفى منه، بل أسوء من ذلك بأن العدو الغاصب القاتل أشرف منه، كما سمعت أحدهم يقول في مقطع له، أما تذكير الناس وتوعيتهم فخيانة عظمى لحكوماتهم ولأوطانهم التي لا يكف الأعداء عن اشتهائها والسعي الحثيث لوطئها.

لنحاول أن نكسر هذه الدائرة العقيمة المهلكة ونقول كلمة الحق التي قالها من قبل أمل دنقل إذ أوفى وأجزل:

لا تُصالح!
ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما
هل ترى؟
هي أشياء لا تشترى[2]





 [1] هل لليهود حق في فلسطين؟
عادل مناع


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الحنين وأشياء أخرى في رسالة

عن بغلة القبور

الرابط العجيب بين نشر إيران للتشيع، وغسيل إسرائيل الوردي!