قفاز أسود: أنا لست حَجّة!



اسمي منيرة مواليد 1992 ولست متزوجة، تخرجت في كلية اللغات والترجمة: تخصص اللغة الإنجليزية، بتقدير ممتاز، وأحمل شهادة ماجستير في الترجمة بتقدير ممتاز، ولغتي الإنجليزية ممتازة وليست مجرد درجات على ورق. كاتبة ولي رواية تحمل عنوان "بغلة القبور" ومترجمة مستقلة*.

عندما أخرج من البيت أبدو هكذا: عباءة سوداء مستطيلة أقرب ما تكون للمربع لأنني قصيرة القامة، أكمامها واسعة إلا عند الرسغين فهي ضيقة لا تظهر منها ذراعاي ولا ملابسي، ولا يوجد بها أي لون غير الأسود، ولا أي نقش أو تطريز، وأرتدي نقاب أطول من النقابات الموجودة الآن في الأسواق، بطبقة فوق العينين، فلا يظهر منهما إلا شيء بسيط على قدر الحاجة، وأرتدي القفازات السوداء والشرابات الملونة -وإن كانت لا تظهر من تحت عباءتي الطويلة وأحذيتي المغلقة. أحب أن أحمل كروس بودي باق صغيرة بلون أحمر تكفي لحمل محفظتي وهاتفي الجوال.

وفي الصيدلية يناديني الصيدلي الطويل: يا حجة، وفي السوبر ماركت تناديني العاملة في منتصف العمر: يا أمي، وفي محل ملابس الأطفال الذي دخلته فقط لأستفسر عن التخفيضات لأن أمي تريد شراء ملابس لحفيدتها؛ يناديني البائع العشريني: يا خالة، وليس لأنني خالة حقًا فهو لا يعرف ذلك، ولكن لأنه يظنني مثل كل السابق ذكرهم "كبيرة في السن" بما يكفي لأن أكون خالته.

عندما يحدث هذا لي لا أفكر في مستواي تعليمي وشهاداتي، لكني أفكر في مستوى تعليمهم وتأهيليهم هم، في شهاداتهم التي خذلتهم ولم تسعفهم بكلمة احترام لائقة يمكنهم استخدامها مع الزبائن والعملاء لا تعكس توقعاتهم المغلوطة عن سني وحالتي الاجتماعية، وأسوأ من كل هذا توقعاتهم عن حالتي التعليمية، فأنا على يقين أن بعضهم يفترض أنني غير متعلمة.

كنت أجد أحيانًا في سنين المراهقة أعداد من مجلة  الأسرة _على ما أذكر _ في مكتبة البيت، لا أعرف بالضبط كيف كانت تصل لبيتنا لكني كنت أقرأها مرارًا وتكرارًا. كنت أحب عمود فيها لا أذكر اسم كاتبته، لكنها كانت على قدر كبير من الوعي والثقافة، أذكر أنها كنت تعيش في الخارج وعادت للسعودية، وحسب ما فهمت أن حجابها كان يشبه نوعًا ما حجابي الآن، ذكرتْ ذات مرة أنها كانتْ تنهي معاملة لها وطلبت منها الموظفة أن تعبأ بياناتها في الجهة المخصصة للعربية على ورقة، وتجرأت وطلبت منها عندما تنتهي أن تبصم مفترضة أن مستوى تعليمها لا يسمح لها بالتوقيع، فعبأت الكاتبة بياناتها كاملة بالإنجليزية لتُعلّم الموظفة درسًا في التسرع وإلقاء الأحكام على الأشخاص بناءً على معاييرها الفاسدة. حدث أمر مشابه للغاية لي، فعندما زرت فرع بنك البلاد النسائي قبل أربع سنوات تقريبًا ودخلت على الموظفة هناك راعها رؤية القفازات تغطي يدي، وحرفيًا ارتبكت نظراتها وهي تراقبني أخلعها، لا أعلم أكانت تتصور أنني أخبأ حزامًا ناسفًا تحت عباءتي مثلًا. طوال عملها كانت تتجاهلني وتتعامل معي بتعالي، وأكثر من ذلك رفضت خدمة أختي بحجة أنها لم تتوقع أنها عميلة محتملة. لكن بعد أن عرفت أنني أدرس الماجستير وأن تخصصي ترجمة، أصبحتُ فجأة استحق شيء من الاحترام.

أدرك جيدًا أن هذا التعامل ليس إلا اختبار، فمن منا لا ترغب أن يحترمها الناس، ويعتقدوا أنها أصغر من سنها، ومن لا تريد أن تبدو جذابة وجميلة وربما تلقى معاملة خاصة، أرى ذلك طوال الوقت على الفتيات الاتي يظهرن كل شيء إلا وجوههن، لكني أذكر نفسي بمن أنا. أنا امرأة ذكية مثقفة وواعية، لا يهمني نظرة الناس لمظهري بقدر ما تهمني نظرتي لنفسي، لقد تجاوزت الكثير من العقبات في حياتي واهتممت بتعليمي وتثقيف نفسي وتحقيق أحلامي، أقرأ كثيرًا وأفكر كثيرًا بمنطقية، ولي وجهة نظر ورأي في كل ما يدور حولي، ولست جاهلة بأمور ديني، ولكني أيضًا لا أتعالى عن تعلم الدين والشريعة ممن هم أهل لذلك.

لكن ماذا عن الفتيات مثلي الاتي يلقين نفس المعاملة ولا يجدن شهادة جامعية، ولا حتى ثانوية تطيب خواطرهن، لأن ظروفهن لم تسمح لهن بإكمال تعليمهن، أو لأن الشهادات ببساطة لا تهمهن، لا شك أن اختبارهن أصعب بكثير من اختباري، ولا شك أنهن هن المقاتلات الحقيقيات، فبينما يحسدني بعض من حولي لأنني أنجزت ما عجزن عن إنجازه، تجد على الأرجح من حولهن ينظرنَ لهنّ بدونية وكأن الشهادة الجامعية وقت ختمها يُرفق معها عقل مختلف، أعلى درجة من عقول البقية، وجميعنا ندرك أن هذه ليست الحقيقة، على الأقل ليس في مجتمعنا هذا، ونعلم أن الشهادة الجامعية لا تعني إلا أن حاملها قضى أربع سنوات على الأقل يتردد على الجامعة، تفاصيل هذه السنوات الأربع وما حدث خلالها، وكمية العلم الذي اكتسبه والخبرة هي الفارق الحقيقي، بل حتى أن الدرجات والتقدير قد لا تعني إلا شيءً واحدًا: أن الحاصل عليها شخص قادر على جمع الدرجات إما لأنه يعمل بجد أو لأنه مخادع. 

وصلتني رسالة إلكترونية من دار النشر التي تعاقدتُ معها لنشر روايتي تخبرني فيها ببدء تسجيل بيانات الكُتّاب الراغبين بتوقيع مؤلفاتهم في معرض الكتاب الدولي السابق بجدة. فكرت في الذهاب للمعرض طويلًا لكني لم أكن مستعدة لأن أواجه النظرات والتوقعات الخاطئة عني وأنا أجلس هناك مغمورة بجانبي روايتي الأولى التي لا يعرفها الكثير، ولا أشبه أي كاتبة أخرى وأنا أمسك القلم بيدي التي يغطيها قفاز أسود بأصابع غريبة، وأتوقع الأسوأ: ماذا لو ظن أحدهم أنني حَجّة ضائعة؟ ألن يكون ذلك أسوأ من أن لا أوقع ولا نسخة واحدة؟

منذ فتحت عيني على الحياة وأمي ترتدي عباءة على الرأس وتغطي وجهها ويديها وقدميها، لكنها لم تلزمني يومًا بطريقة حجابها، فها أنا ذا لا أرتدي عباءة على الرأس، ولقد اخترت الطريقة التي أتغطى بها لأن الله شاء لي ذلك فيسر لي الالتزام بذلك، ولو أنني اخترت أن لا أغطي يدي وقدمي لما أجبرتني لا هي ولا والدي على ذلك.

لقد قررت كتابة هذه التدوينة لأقف في وجه المحاولات المستميتة لإظهارنا نحن الذين نغطي أجسادنا طاعة لربنا بمظهر الجُهال المقلدين، والانتقاص من قدرنا وسحقنا. أريد أنا أرى تغيّرًا في طريقة تعامل الناس معنا، بل أطالب بالتغيير: بأن يقدم الباعة، والصيدلانية، وموظفي الاستقبال، والأطباء، والمجتمع بأسره لي ولكل اللاتي يتمسكن بحجابهن وغطائهن كما فرضه الله علينا، وكما تمسك به زوجات الرسول -صلى الله عليه وسلم- وبناته والصحابيات؛ الاحترام الذي نستحقه. هذا الحجاب والغطاء ليس مقصورًا على كبيرات السن والأمهات، ولا يعني أننا غير متعلمات وغير مثقفات، أو أننا مجبورات عليه، ولا يعني مطلقًا أننا "مطوعات" بمفهومها السلبي الذي فرضه علينا صغار العقول والسطحيون. إنه يعني أننا نخوض اختبارًا صعبًا للالتزام بهذه الفريضة، وغالبًا نحن مقصرات في جوانب أخرى ونرجو أن ينالنا عفو الله وأن يهدينا لما فيه صلاحنا.

لقد كتبت هذه التدوينة لأنني أيضًا أريد أن تعرف كل واحدة تواجه العنصرية والنظرة الدونية لأنها تغطي وجهها وأطرافها بأنها ليست لوحدها، وبأننا كثر وعلى صواب، أريدها أن تتذكر ذلك فلا تيأس ولا تستسلم، وأن تتمسك بما تؤمن به من أجلنا جميعًا وتتذكر أنها حياة دنيا فحسب، على قدر جمالها إلا أنها سريعة وستخذلنا جميعًا مهما كان مقدار حبنا لها ومهما تخلينا عن ثوابتنا من أجلها.

- "وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ ۖ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَىٰ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ ۖ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ ۚ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" النور - الآية 31

* لطلبات الترجمة: muniratrans@gmail.com


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الحنين وأشياء أخرى في رسالة

عن بغلة القبور

الرابط العجيب بين نشر إيران للتشيع، وغسيل إسرائيل الوردي!