الآلهة كوماري وبحثنا عن الكمال

 *



شاهدت مرة فيلم وثائقيًا عن عبادة الفتيات في النيبال، حيث يؤمن جزء من الهندوس والبوذيين هناك أن آلهة تتجسد في جسد طفلة صغيرة بمواصفات معينة، ومن ثم تُختار هذه الفتاة لتكون الآلهة كوماري، فتُعبد وتُبجل وتُقدم لها القرابين، وتعيش في معبد مخصص للكوماري حيث يجب أن لا تطأ أقدامها الأرض مطلقًا، ولا تخرج إلا نادرًا، محمولةً للاحتفالات والمناسبات الدينية، ويجب أن لا تُجرح ولا تنزف مطلقًا، فإذا حدث ونزفت فإن الآلهة تخرج من جسدها وتعود شخصًا طبيعيًا، وهكذا فحالما تحيض الفتاة الكوماري حيضتها الأولى تنتهي حياتها المقدسة، وتصبح من عامة الناس، وتحل فتاة أخرى محلها لتصبح آلهة بدورها.

الجروح والنزيف وحتي الحيض يحول فتاة من آلهة إلى مجرد بشرية، هذا البحث عن الكمال الزائف ضلل الناس ليجعلهم ينصبون فتاة آلهة ويعبدونها، وفي اللحظة التي تظهر فيها بشريتها يعيدونها لعالمهم المتناقض المفتقر دائمًا وأبدًا للكمال. هذا التطلع للكمال طبيعة بشرية يقود بطريقة أو بأخرى لنتيجة بديهية وهي عبادة الكمال، فكل ناقص يبحث عما يكمله ويتوق ليبجل كماله ويحتفي به، غير أن الشيطان بارع للغاية في تضليل الناس وإعماء عيونهم عن الكمال الحقيقي، المستحق للعبادة والذي فيه كل الكرامة والمنطق، إنه ببساطة كمال الله.

على مستوى أقل تطرفًا وضلالًا نبحث كثيرًا عن الكمال في أشكالنا وملامحنا وأجسادنا وكل ذلك، ومرة أخرى نبجل كل ما يستوفي معاير الكمال الشخصية عندنا، فنفتن بالوجوه الجميلة والبشرات الصافية النقية، معدومة المسام والكلف، والأجساد الممشوقة الخالية من الشعر والترهلات وتدرجات الألوان، لكن هذا الافتتان والبحث عن الكمال يخلق بدواخلنا ثورة على نواقصنا، ويغرقنا في مستنقعات كره الذات وانعدام الرضى، وعروض المقارنات التي لا تنتهي، مثل دائرة مغلقة ندور فيها بلا توقف. ومع دورانا المستمر نجذب الآخرين لهذه الدائرة بقصد أو بغير قصد، فنسب أسنان إحداهن في وجهها، أو نعترض على بشرتها وسوء عنايتها بها -مفترضين أنها لا تعتني بها- حتى نشعر بأننا أفضل حالًا لأننا نعتي بأنفسنا، أو نسرد ببساطة معاييرنا للجمال عند الحديث مع أحداهن على شكل قوانين صارمة، تُقصي كل من لا تلتزم بها من دائرة الجمال والأنوثة المزعومة، وهكذا نخلق بداخل المستمعة ثورة ضد نقصها وفشلها في استيفاء هذه المعايير.

الجمال والأنوثة! مهما حاولتِ أن تكوني حيادية ستجدين عندكِ قائمة من المعايير تحددهما، قد تكونين قاسية على نفسكِ فتشمل قائمتكِ كل ما لا يمكنكِ استيفائه، ومن ثم تُقْصين نفسكِ من دائرة الجمال والأنوثة، أو ترهقين نفسكِ لتحقيقهما وفق قائمتكِ ثم تغرقين في كره الذات. لا شيء أسوء من النظر في المرآة والشعور بكره تجاه الصورة المنعكسة عليها، وأي شيء لطيف تستحقه صورة لا تحبينها؟ على الأرجح لا شيء. وهكذا ستهملين نفسكِ وتعاملينها بسوء وقسوة، وسيتفاقم الأمر إن كان في حياتكِ شريك ترين أن الصورة على المرآة أسوء ما حصل عليه في حياته. هذا الكره والقسوة لن يكتفيا بكِ وسيحبان أن يجربا أخريات غيركِ، ومثل طفيليان مجنونان سيسيطران على عقلكِ، وسيعبثان بكِ ويدفعانكِ لأذية الأخريات والتنمر عليهن وهز ثقتهن بأنفسهن، ليصبحن أخيرًا مثلكِ غير راضيات على الصور في مراياهن.

عوضًا عن دوائر الكره هذا علينا جميعًا أن نتسامح مع أنفسنا ونتقبلها، ونتذكر حقيقتنا المحضة: أجسادٌ فانية. لن تبقى للأبد هنا، ولم تخلق لتبقى للأبد على هذه الأرض التي تموت بدورها، لأن النقص والموت من طبيعة هذه الحياة. نحن لسنا أواني فخارية أثرية ينبغي أن لا تخدش ولا تنكسر، نحن أجساد تبلى. آثار الحروق على يدي، وحتى ذلك الأثر المستدير في صدغي الأيسر، والذي يخطأ كثيراتٍ في حقيقته ويسمحن لأنفسهن بمسحه بأصابعهن ظنًا منهن أنه لطخة كحل، وأنا التي لا تستخدم الكحل الأسود إلا ما ندر -هذه الآثار لا تجعلني أقل أنوثة وجمالاً من أي امرأة في العالم، وأهم من ذلك أنها لا تجعلني أقل إنسانية من أي إنسان آخر. علامات التمدد التي تزحف ببطء على أجسادنا جميعًا، كابوس الحوامل الأسوأ، ليست إلا آثار للحياة التي تنمو وتكبر بداخلهن وليست مدعاة للخجل والاكتئاب، إنها طبيعة بشرية لا أعرف كائناً آخرًا يجدها على جسده كلما ازداد وزنه أو نقص، أو كلما حمل ووضع، فلماذا نكره أنفسنا بسبب شيء خاصٍ جدًا بنا.

التعايش الحقيقي هو التعايش مع أنفسنا بكل نواقصها. لو تقبلنا حقيقتنا وأدركنا أن هذه الصور والأجساد مؤقتة ستنتهي صلاحيتها بموتنا، وستستبدل بأجساد أجمل في الجنة، أو أقبح في الجحيم –أعاذنا الله منها- وأن هذه الأجساد الجديدة ستستمر معنا للأبد، فسيهون علينا كثير من عيوبنا. أنوفنا الغريبة، وشفاهنا المسطحة، وأثداؤنا الصغيرة، وحواجبنا الكثيفة المتصلة، كل هذه ليست إلا صورًا مؤقتة، لا تعكس الكثير من دواخلنا وحيواتنا وأعمالنا، لكنها حتمًا ستؤثر بنا بقدر ما نتعلق بها ونبالغ في شأنها.

فقط عندما نتعايش مع أنفسنا ونتقبلها سنجد أننا لم نعد مهتمين بنواقص الآخرين ولا كارهين لها. الشعر الكثيف على يد إحداهن أو ساقها أو حتى شاربها لا يعنينا في شيء، ولا ينبغي أن يثير حفيظتنا، ولا ينقص من أنوثتها أو إنسانيتها، ولا يفترض به أن يمنحها تقديرًا أقل أو أكثر من ما تستحق. وكذلك كل نقص وطبيعة علّمنا المشاهير والإعلام كرهها وتغييرها، لا يفترض بنا حقيقة أن نهتم بها أو نلقي لها بالًا، أو أسوأ من ذلك كله أن نسمح لأنفسنا بالتنمر على الآخرين وتقييمهم بناء على وجودها عندهم وترفعهم عن الانشغال بإزالتها أو تغييرها.

خلاصة الحديث أن نتذكر طبيعتنا البشرية وغايتنا الحقيقية في هذه الحياة، ثم نتقبل كل نقصٍ وعيب ولدنا به أو ابتلينا به، وأن نقف مع بعضنا بعضًا، ونشد من أزر بعضنا بعضًا حتى نجتاز هذه الحياة بأقل خسائر عاطفية ونفسية ممكنة. لنستعد جيدًا لأجسادنا الجديدة الدائمة، والتي تفوق قطعًا كل معاييرنا الدنيوية البائسة! وإلى ذلك الحين اعتنوا جيدًا بأرواحكم وصحتكم، ولا تؤذوا غيركم.



___________________
*Parfaitement imparfait (Perfectly Imperfect) by LouiseLamirande

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الحنين وأشياء أخرى في رسالة

عن بغلة القبور

الرابط العجيب بين نشر إيران للتشيع، وغسيل إسرائيل الوردي!