IMAGINARIUM




محتارة كيف أبدأ ... حسنا هذا الفيلم لامس جرح بداخلي ... بكيت في غير موضع واستسلمت له منذ أن مد رجل الثلج يده ... أغراني بالذهاب معه في رحلة طويلة حيث أحلامي تصبح حقيقة والراحلون يتوقفون عن الرحيل ويصارحوننا بما أخفوه عنا طويلا ... لكن الرحلة لم تكن كما توقعتها أبدا ...
أن كنت تفضل رؤيته أولا وهذا ما أنصح به فاذهب وشاهده ... خذ وقتك وأطلق العنان لمخيلتك لتلتقط شذرات من هنا وهناك وتلامس بها روحك وجراحك ... لا تحبس دموعك حتى لو لم تجد لها مبرر فجراحك قد تكون مفتوحة وتنزف بصمت لكن الزمن أنساك وجودها ... أفتح قلبك وأبحث عن الرسائل المخبئة لك خصيصا ... أقرأها بصوت عالي وأحفظها فالذاكرة تبهت مع الأيام ... شاهده بقلبك وعقلك ثم عد إلي أنا أنتظرك هنا كما أفعل دوما ...
 دعوني في البداية أشيد بجودة المؤثرات البصرية وروعة الموسيقى  فهو قبل كل شيء فيلم موسيقي بالإضافة لكونه يندرج تحت قائمة الدراما ـ نوعي المفضل ـ والفانتزي ومن لا يحب الفانتزي ...
الفيلم كان مليء بالرمزية فقد أرى ما لا تراه وقد ترى أنت ما لا أراه ... رأيته مرة أو مرتين يلخص معاناة مرضى الزهايمر وتذكرت كيف أعتدت سماع الناس يشكون من عجائزهم وقد بهتت ذكرياتهم ... وتذكرت تلك العجوز التي سمعت عنها يوما كيف ظنت أن العالم لم يتغير وأنها إن خرجت فستمشي في طرق قديمة لم تعد موجودة حتى أن أبنتها لم تطأها يوما ... وتذكرت قريبة لنا لما فقدت ذاكرتها قبل أن تموت وتلحق بزوجها وكيف أنهم أجمعوا على أنها بدأت ترى ملامح العالم الأخر تتراءى لها ... وجدة صديقتي ولمحة الحزن على وجهها وهي تخبرني أن جدتها ما عادت تذكر سنينها ... كلهم فقدوا أطر أرواحهم ولعل الله يرحمنا فيبقي لنا ذكريات أعمارنا عندما نجلس على أطراف الحياة ونستعد للرحيل ... ولا يسعني إلا البكاء وأنا أتخيل كل أعمالي الغير منجزة تنتظرني أنجزها وقد نسيتها كلها كما نسيت عمري الماضي ... ولا يسعني سوى البكاء وأنا أراني أستيقظ مثقلة بالتجاعيد وأظن أن اليوم موعد قطف ثمار الخوخ من شجرة خوخ لم يعد لها اليوم بقايا ... لعل الله يرحمنا ويحفظ أحبائنا من ضياع كهذا ...
الفيلم كان يدور حول Tom اللذي يعاني من الشيخوخة وفقدان الذاكرة ويعيش بين أسوار طفولته ناسيا كل ما كان عليه وكل من عرفهم حتى أبنته Gem تبدو ضبابية في عالمه ... Tom وبعد أن تعرض لنوبة قلبية يغفو في غيبوبة قصيرة يعود فيها لطفل في العاشرة ويصاحب رجل ثلج ـ صنعه ذات اليوم اللذي أنتقل فيه للعيش في الميتم ـ في رحلة لاستعادة ذكرياته قبل أن يمتطي الرحيل ... لعل الفيلم ليس بالضرورة عن الزهايمر لكن هذا ما تبدى لي من ضمن الكثير ... فالفيلم  تناول أيضا تلك الفجوة الباردة بين Gem وأبيها Tom ... فهاهو في رحلته يرى البناء اللذي هو طبيبه نفسه يبني سكة معلقة ثم تتداعى وتظهر بعدها  Gem الصغيرة  لتريحه من عناء العمل وتخبره أن يتوقف عن البناء ... وكأن السكة هي علاقتها  بأبيها في الوقت اللذي وقعت أسمها على تصريح سلمها إياه طبيبه يسمح له بمراقبة قلب والدها يتوقف للمرة الأخيرة ولا يحرك ساكنا ... Gem أيضا تمضي في رحلتها الخاصة حيث تعيد اكتشاف نفسها وتقرب صديقة قديمة لتصاحبها في رحلتها للتصالح مع أبيها ...
هذا جرحي مكشوف للغرباء حتى يلمسوه ... هذا جرحي تبكيه Gem وأبكي أنا جرحها ... ليتني احظى بفرصة مماثلة ... رحلة مماثلة أكتشف فيها خبايا أعلم أنها ليست موجودة ... وأكتشف الأسرار خلف إبعادي ... تعبت من السباحة ضد التيار حتى أصل لمنارتي المظلمة قبل أن تسقط حجرا ثقيلا يولد أمواجا تدفعني بعيدا عنها ... ليتني أصعد على زورقي الخاص وأمضي في رحلة تنتهي بيد تمسح دموعي وسلام يسكن قلبي ... ولا أريد سوى الرضى ... الرضى عني حتى وأن كان يعني أن أترك زورقي مهجورا على شاطئ لن تطأه قدمي ...
لوهلة فقدت نفسي ودندنت كثيرا كالمجنونة ... قبل أن يتحطم الباب أو لعله لم يتحطم فقد سرت الظلمة وغطت عالم Tom الصغير ... أتسائل هل سيفتح الباب اللذي أغلقته منذ زمن وتلتهم الظلمة عالمي ؟؟؟ دعونا لا نذهب هناك فالمكان موحش ...
أعجبني كيف توقف Tom الصغير في وسط الظلمة و Gem الصغيرة تركض من أمامه قبل أن يلحق بها وبعد أن يركض خلفها لوهلة يتشتت بذكرى أبيه القديمة ... وكأن Tom عندما أصبح أب لاحظ هروب ابنته منه وعندما حاول الحاق بها علق بين أكوام الذكريات الحزينة وسيطرت عليه ذكرى أبيه التي سمح لها أخيرا بالسيطرة عليه وأبعد الجميع عنه ...
كما أعجبني كثييراا مشهد السيرك ... بدا لي المهرجون كمزيج من مخاوف Tom وذكرياته السيئة ... ثم هاهي Gem وقد أصبحت امرأة تقف عند رأس أبيها وهو شيخ على سرير الموت بينما Tom ذا العشرة أعوام يراقبها وهي على وشك فتح رأس الشيخ لاستخلاص ذكرياته وصوتها يتردد بين صوت طفلة صغيرة وامرأة بالغة ... وكأنها مازالت عالقة بين أفكارها الطفولية وقناعاتها اللتي كونتها منها اليوم ...
لكنها لا شيء أمام جمال مشهد موت والد Tom وتحطيمه هو لقلب ابنته ... جداران لنفس الغرفة المظلمة ... أنها اللحظة التي علق بداخلها ... الحظة التي أنهار فيها عالمه مع انهيار والده ... أنه مشهد يأسرك ببطء ...
ولا يوازي هذا المشهد إلا المشهد الذي يطارد فيه Tom ابنته Gem وهي كعادتها تهرب منه قبل أن يوقفه العمر ... وكأن الزمن في هذا المشهد تلخص في بضع خطوات ...
الجندي معطوب الرأس يمثل تلك الأشياء الصغيرة التي ندوس عليها في طريقنا وهي تحاول أن توقفنا من الاستمرار في الضياع لكننا ندوس عليها في كل حال ... هذه الأشياء الصغيرة لا تتخلى عنا ولا تيأس منا بل تعاود الكرة عندما يتخلى عنا الجميع ونستلقي تحت وطأة احتياجنا للعون والرفقة ... دعونا لا نوقف البحث عنها ولا ننسى أين وطأنا عليها ... دعونا لا نلعنها ولنحتفظ بها في مكان نجدها فيه عندما نحتاج العون ... فوحدها ستقف بقربنا ووحدنا سنعرفها ...
لا أعلم كيف فاتني أن أدرك حقيقة رجل الثلج طوال الفيلم وأنه ليس إلا ذكرى والد Tom  الأليمة تلاحقه وتبقيه تحت سيطرتها ... السكة الحديدية كانت طريق Tom الشيخ لاستعادة ذكرياته بحلوها ومرها بعد أن تمكن من تجاوز الفجوة اللتي خلفتها Gem بعدها ... وفي نهاية رحلته يترك أخيرا الذكرى الوحيدة اللتي أبقاها حية لسنين ويتحرر منها ليرقد بعدها في سلام مع أميرته .. ولا أدري كيف فاتني طوال الفيلم أن الأميرة صاحبة الشعر الأحمر بداخل الكرة زجاجية ليست إلا Gem نفسها ... فهاهي في نهاية الفيلم تعزف الوتر المناسب وترقص على نغمه ...
شعرت عندما فتحت Gem الستائر في الواقع قبل أن تذهب لتودع أبها الوداع الأخير وترسله في سلام لرقاد طويل أن رجل الثلج الذي لمحته كان رجل الثلج خاصتها والذي كان من المفترض به أن يكون والدها لكن وجود Ann بقربها لم يترك لها الوقت لاكتشافه وربما السماح له بدخول حياتها وإفسادها كما أفسد حياة والدها من قبل ...
ربما بلورات البرد اللتي تتكدس على أطراف قريتي في كل موسم لن تشكل يوما رجل ثلج يطاردني ... لكن حصاتها قد تشكل ما هو أسوء من رجل ثلج .. فقط أدعوا لي وسأدعو لكم بأن لا يصادفنا رجل يسرق ذكرياتنا ويتوج سوادها على ألوان حياتنا ... فلندعو جميعا بصدق ولعل الله يستجيب دعائنا ... 

أخيرا ... جميعنا نسير في أزقة مظلمة نبحث عن أبواب مغلقة ونتبع ألحان متقطعة لعلنا نجد الخلاص خلفها ... دعونا لا نوقف المسير, السمع والبحث ...



   

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الحنين وأشياء أخرى في رسالة

عن بغلة القبور

الرابط العجيب بين نشر إيران للتشيع، وغسيل إسرائيل الوردي!